الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لقاء خياليّ مع كانط

لقاء خياليّ مع كانط
23 أكتوبر 2013 19:59
تخيّل الكاتب الفرنسيّ برنارد ايدلمان لقاء مع الفيلسوف الشهير عمانوئيل كانط المولود في بلدة كوينغسبرغ (بروسيا الشرقيّة) في 22 أبريل 1724، والذي توفيّ في نفس البلدة يوم 12 فبراير 1804. وفي هذا الحوار البديع، نحن نكتشف أفكار هذا الفيلسوف الذي التزم حتّى اللحظة الأخيرة من حياته بنظام صارم لم يقبل بالتخلي عنه أبدا. فقد كان ينهض كلّ صباح في السّاعة الخامسة. وكان يوصي خادمه بألا يسمح له أبدا بتجاوز هذا الوقت. وكان كانط يولي اهتماما كبيرا لصحته، وبها يعتني اعتناء شديدا. لذا كان يصغي للأطبّاء، ويأخذ بنصائحهم. وكان يمارس رياضة المشي يوميّا. ورغم المحافظة على صحّته، فإنه لم يكن يرغب في أن يعيش طويلا. وكان يقول إنّ العيش المديد يمنع الشبّان من كسب حياتهم. وكان يدعو البعض من الأصدقاء لتناول طعام الغداء معه. ولم يكن يتحمّل الضّجيج لذلك غيّر سكنه بسبب صياح ديك. بل إنه فرض على إدارة السّجن الذي كان مجاورا لبيته أن تمنع السّجناء من الغناء، ونوافذ زنزناتهم مفتوحة. وكان يهوى الموسيقى، والرّسم. غير أن السياسة كانت تفتنه أكثر من أيّ شيء آخر. لذا كان يتابع باهتمام كبير أخبار السياسة البريطانيّة إذ أنه كان يعتبر بريطانيا الأمّة الأفضل في أوروبا. وآخر كلمة تفوّه بها، كانت: “هذا شيئ جيّد!”. وقد قالها بعد أن قدّم له أحد طلبته كأس ماء فيه مزج النبيذ بالسّكّر. يكتب برنارد ايدلمان في حواره الخيالي مع كانط: وصلت أخيرا إلى “كوينسبرغ”! وكان ذلك في يوم من أيّام سبتمبر 1790.. أبدا لم يكن الخريف جميلا إلى ذلك الحدّ. وكانت ألمانيا بأسرها قد ذبلت. وأحيانا كان هناك في لطافة تلك المشاهد شيء إيطاليّ يهتزّ له قلبي. أدخلني إلى البهو خادم عجوز، صارم، وجافّ، ترفع وجهه إلى الأعلى ياقة منشّاة. وقد قلت في نفسي، هكذا بعد حين، سوف أرى أمامي الفيلسوف المرموق! وسوف أسمع أفكارا رائعة تسقط من فمه! وسوف ينتصب أمامي ذلك الذي اقتحم السّماء، وفعل ما لم يفعله فيلسوف من قبله. كنت أروح، وأجيء مضطرب النّفس، ولم تكن لي رغبة في الجلوس، وكان سيفيّ يضربان بلطف على المرمر. وكنت قد نسيت متاعب السّفر، ومحن فرنسا المدمّرة، والمخرّبة، والناس المسلّحين، والوجوه المرعبة للفلاّحين، والحصون التي كانت تحترق فوق الهضاب (إشارة إلى الأحداث الدّامية التي عرفتها فرنسا بعد اندلاع الثورة التي أسقطت النظام الملكي عام 1789). وكنت قد نسيت كلّ شيء ذلك أنّي كنت هناك في المعبد حيث يتطهّر التّاريخ، وحيث يرتفع الفكر إلى أعلى القمم، وحيث الفضاء، والزّمن ينتظمان بهدوء. أخبار فرنسا وعندما أشارت لي الخادمة بالدّخول إلى مكتب كانط، شددتّ سيفيّ إلى جنبيّ كما لو أن الحرب مضطرّة للانحناء أمام الحكمة. ذهبت إليه وخدّاي ملتهبان، وقلبي يضرب بشدّة. كان ينتصب واقفا على ساقيه الملتويتين بالقرب من الباب. شعره المستعار هائل، ورأسه إلى الأمام. وقد ازداد معزّة بالنسبة لي وأنا أتأمّل جسده الضّامر، الهزيل، وكتفه التي تبدو أعلى من الأخرى. وقد استقبلني بحفاوة بالغة، متحدّثا لي بلطف، ومرح، سائلا عن ظروف رحلتي، وعن البلدان التي مررت بها، وعن الرجال الذين التقيت بهم. وكانت مخاطبته لي مهذّبة، ومؤدّبة للغاية، الشيء الذي جعلني أستعيد شيئا فشيئا وضعي الطبيعيّ. وعندما لاحظ كانط أنّي هدأت، سألني عن أخبار فرنسا، ذلك أنه يحمل للفرنسييّن ودّا خاصّا: “هم لطيفون، خفيفو الرّوح، روحانيّون، حتى لو كان هناك (ظلّ يبحث عن الكلمة)... نوعا من السطحية في سلوكهم. أليس كذلك؟ سطحيّة تُنْقص من قيمة فكرهم. وحتى وإن كانوا يمتلكون خصالا نبيلة، فإنّهم لا يعتزّون، ولا يفخرون إلاّ بانفسهم دائما وأبدا. وهم يعتبرون الآخرين مجرّد لعبة”. وبيده قام كانط بإشارة من يلعب بالكرة، ثمّ ابتسم. قلت له: “آه... يا سيّدي كلماتك لطيفة للغاية... وأنا سعيد أن أستمع إليك... لكن للأسف، ذلك الزّمن ولّى!”. ثمّ وصفت الفترة العجيبة التي كنّا نعيشها آنذاك: الملك ممنوع من أداء وظائفه، ومحبوس، والشّعراء يعيشون حالة من البؤس والشّقاء، والأقوياء يفرضون أحكامهم المطلقة والاستبداديّة، والمؤامرات، والأشباح، والأضواء على باريس المدمّرة، وأوقات الفجر مضرّجة بالدّماء... وأمّا ساعات الغروب فسوداء قاتمة! قلت له بإنّ الأنظار تبدّلت، وأن الحركات أصبحت مختلفة، وأن الكلمات نفسها تنكّرت لمعانيها القديمة، وأن كلمات مثل “الشعب”، و”العقل”، و”الحرية”، و”الأخوّة”، تخدم مصالح أخرى غير مصالحها الطبيعيّة المعروفة، بل أنها أصبحت تشرّع أعمالا منافية لها. ثمّ خاطبته قائلا: “أنت الذي عرفت لطافة فولتير، واعتدال مونتسكيو، وسخاء روسو، واستقامة ألمبير، لا بدّ أنّك تتألّم لوضعنا. أنا متأكّد من ذلك. هل ثمّة في كلّ هذا لغز يمكن أن تجد له حلاّ؟ وهل تعرف سبب هذه المأساة؟”. وكلّما تقدّمت في الحديث، ازدادت ملامحه تجهّما. ثمّ نهض. خطا بعض الخطوات. وسمعته يهمس: “آه... يا إلهي... يا إلهي... الملك سوف يموت، الملك سوف يقتل!”. فتح النافذة التي يمكن من خلالها أن نرى باحة صغيرة، وتنفّس بقوّة لمرّات عدّة. وعندما جلس من جديد، كان وجهه قد استعاد هدوءه: “لقد سمعتك تتحدّث عن أشياء مرعبة في حين كنت أرى أن النظام الملكيّ يُهان، والقانون يُداس، ويتمّ العبث به، والملك بين سجّانيه. وكنت أقول إنّ النفس البشريّة مغترّة بنفسها دائما، وقاسية، وبربريّة! حالما نعطي القليل من الحريّة للإنسان، ونحررّه من القيود التي كانت تكبّله، فإنه يسارع بحمل السّلاح لقتل من كان سببا في تحرّره! هل تفهم مثل هذا الجنون؟! الإنسان يتطلّع إلى الحريّة غير أنه يمنع الآخر منها. وهو يتطلّع إلى المساواة، لكنّ بهدف ملء السّجون! وهو يبكي بعد أن يموت سيّده، غير أنه يضحّي بهذا السيّد على مذبح المساواة”. مواجهة الفظاعة صمت لبضع دقائق ويداه مبسوطتان على ركبتيه، وفمه يختلج باختلاجات خفيفة، ثمّ أضاف قائلا: “مع ذلك، فإن هذا لا يمكن أن يقع! ومن واجب الفيلسوف أن يفهم، وألاّ يدع نفسه يستسلم للفزع، والتقزّز. وعليه أن يحافظ على الأمل، حتى ولو كان هذا الأمل منعدما أصلا، وأن يواجه الفظاعة، والعنف بالحكمة، والتعقّل... تاريخ العالم ليس محاكمة العالم ذلك أن العقل هو وحده الحَكَمُ”. علّقت على كلامه قائلا: آه يا سيّدي... أنا أسمعك جيّدا، وأشعر أن التاريخ يمتلك عقله حتى ولو كان هذا العقل لا مرئيّا! لكن بكلّ وعي، هل من حقّنا أن نأمل؟ وهل يمكن أن يكون الأمل واجبا؟ وهل يمكن أن تكون الحريّة راغبة في الاستعباد؟ وأن يكون الحقّ راغبا في القوّة؟ وأن يكون الخير في حاجة إلى الشرّ؟ والسّلام في حاجة إلى الحرب؟ ومن هو الفيلسوف الذي بإمكانه أن يعالج كلّ هذا دون أن يخشى أن يكون سفسطائيّا؟ وفي الحقيقة أنا أخشى أن تكون الحقيقة عمياء، وأن نكون نحن مجرّد دمى في يديها، وأن تجرّنا إلى الجحيم في حين أننا نظنّ أننا ذاهبون إلى السّماء! وأنا أخشى أن نكون شعبا من الشياطين تفسد الحرية فضائله، وأن يكون مصيرنا قد بات غير قابل للإصلاح، والتغيير. ونحن نفعل الشرّ لأننا نحبّه في النّهاية!”. حرّك كانط رأسه من اليمين إلى اليسار، ثمّ أخذ نَفَسا قويّا: “مشاعرك وعواطفك تحملك بعيدا... أنت تركض، وتركض، وتتّهم السّماء محمّلا إيّاها كلّ الشّرور، ومع ذلك أنت الحجّة المتحرّكة لهدف الطبيعة! انظر إلى نفسك النظرة الصّافية، والفكر متيقّظ، والخطاب مندفع، ومتحمّس، ألست صورة الإنسان ذاته؟ أن تلعن العناية الإلهيّة، ألا يعني هذا أنك تريد أن تعارضنا بالعقل؟ آه يا سيّدي، مثل كلّ الذين لا يستطيعون للصّبر سبيلا، أنت تريد أن تكون الأشياء سهلة، وأن يتمّ الحصول على الحرية من دون جهد، أو عناء. لكن ماذا تعني الحرية المهداة؟ لا شيئ! الحريّة التي تقطف مثل الثمرة النّاضجة على الشجرة تجعلك شبيها بالزّنجيّ البائس، المدّد طول النّهار تحت شجرة جوز الهند، تاركا السّحب تمرّ، وهو يتثاءب! الحريّة تطلب، وهي بمستوى المصاعب التي ينبغي تجاوزها. وهذا ما أدركته الطبيعة. وعندما أكلت العلم مثلما تؤكل الثّمرة، طردتنا حوّاء من الجنّة. وفوق كلّ هذا، تخيّل أنك تملك المعرفة الكاملة، وأن اللّه، والأبديّة يتمثّلان أمامك في صورتهما القصوى. تخيّل أنك تعرف بداية العالم، ونهايته، ماذا تبقّى لك أن تعمل؟ لا شيء! وماذا سيكون واجبك؟ لست أدري. لماذا تريد أن تعيش أكثر؟ هذا أمر أجهله. لنكن على اتّفاق. إذا ما نحن عرفنا العالم حدّ أنّ معرفتنا تكون العالم ذاته، فإنه لن يتبقّ لنا شيء نفعله. ففي هذه الحالة، سوف نصبح على صورة النّحل، أو القنادس، منشغلين بنفس الحركات في قرون القرون! صدّقني، على الإنسان أن يظلّ أعمى، وأن يظلّ لغزا بالنسبة للإنسان، إذ أن غطرسته ضروريّة بالنسبة لأمله. وفي النهاية، عليه أن يخطئ ألف مرّة لكي يكتشف أخطاءه. كما عليه أن يرتكب أعمالا شرّيرة ألف مرّة لكي يدرك قيمة الخير”. وعلّقت أنا على كلامه قائلا: “أطروحاتك تملؤني فزعا، وأعتقد أنني أرى فيها نوعا من الدّفاع عن التّعاسة، والشّقاء. غير أن الحبّ يا سيّدي ... ألا ترى ...”. قاطعني كانط: “ومن الذي يحدّثك عن الحبّ؟ وماذا يعني الحبّ هنا؟ نحن لسنا في “أركاديا”، وأنت لا تحرس خرافك مرتديا ثياب راعي فرجيل، على أنغام الشبّابة الخشنة! دع هذا للشعراء الذين لا وقت لهم إلاّ للأحلام. وبما أنك أثرت هذا الموضوع، فإنّي أقول لك إن الحبّ هو الحرب التي لا تقلّ دمويّة عن الحرب، ولا تقلّ عنها دمارا، وخطورة، وفتكا بحياة البشر. هناك عند الإنسان لا إنسانيّة قاتمة، وحيوانيّة، متوحّشة تجعلني أرتجف، خصوصا أن المرأة هي الرّهان. فمن ناحية، يعبّر الرّجل عن رغبته فيها، ويقترب منها، ويحدّق فيها، وبوثبة واحدة يصرعها. ومن ناحية أخرى، هو يتغنّى بجمالها، وبأناقتها، وببراءتها! ألا يعتمد أكل لحم البشر الهجين هذا الخطاب؟ هل على رياء، ونفاق الرغبة البشريّة، وعلى الصّراع بين المثاليّ، وبين الغريزة؟ وهل تعتقد أن المرأة يمكن أن تكون فريسة لطيفة للغاية لكي يتمّ التهامها؟ وفي الحقيقة أنا لا أرى أيّ حبّ في كلّ هذا، بل أنا أرى الشهوة الجنسيّة التي تقود صاحبها رأسا الهدف الكبير للطبيعة، والتي تعمي بصيرة الإنسان، فيصبح عاجزا عن رؤية الهدف الذي يبتغي الوصول إليه... الوهم هو المحرّك الأساسيّ للحياة، وهو الذي يجعل الناس يمشون بانحراف، وعيونهم مثبتة على سعادتهم الحزينة!”. سألته مستغربا: ماذا؟ ألا تؤمن بالسعادة؟ أجاب بنبرة ساخرة: السعادة هي عقل الأغبياء، وهي الأخلاق المنحطّة، وهي النّبل المنهار إلى أسفل السّافلين. هل رأيت ذات يوم دولة سعيدة، وسلاما سعيدا، وزواجا سعيدا؟! وهل بإمكانك أن تتقبّل شيئا بلا معنى مثل ضرورة أن تكون سعيدا! أو أسوأ من ذلك، أن تتقبّل الحقّ في السعادة؟ ومن هو المشرّع الذي يكون غبيّا، ومجنونا حدّ أنه ينحت على الطاولات المرمريّة: “كن سعيدا!”. وحدهنّ النساء يؤمنّ بالسّعادة حتى يتمكّن من أن يؤنّبنا على عدم منحهنّ أيّ شيء، لكن أنا أعتقد أن الشقاء هو النّبل الحقيقي للإنسان ذلك أنه يجعله قويّا، قادرا على الصّمود، والمقاومة، وجديرا بالفضيلة، والوقار. وأنا أفضّل غابات ألمانيا السوداء على حقول “النّورماندي” المعشوشبة. ففي غاباتنا، الأشجار كثيرة العقد، ولها قدرة على المقاومة”. قلت له: الحكمة حزينة يا سيّدي، وأنا بعيد عنها. ربّما يعود ذلك إلى أنني لا زلت شابّا، لكن من الخطأ أن أؤمن بالسّعادة التي تتولّد عن الحبّ، وعن متعة الحواسّ، وبجمال الصباحات، وبأنفاس امرأة أحبّها، وبالابتسامة على شفتيها. إنّ صلابتك تحرق قلبي، وأنا لست أدري ماذا أفعل... ردّ عليّ قائلا: “أيّها الشابّ، الحزن يأتي في وقته، وبخطوات محسوبة. والشيء الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يفخر به هو أن يستمرّ في الوجود، وأن يحتفظ الإنسان بحياته فهذا واجب، بل هو الواجب الأكثر قداسة. علينا أن نعيش لأنه يتحتّم علينا ذلك. وذات يوم، سوف تضمحلّ أحاسيسك، ومشاعرك، وسوف تصبح شفتا زوجتك قبيحتين، ومنفرتين. والصباحات المبكّرة سوف تجمّد قلبك. لذلك يتحتّم عليك أن تصمد أمام الإحباط، ووهن العزيمة، وأمام هشاشة الكائن. وعليك أن تبتهل للعقل حتى لا يتخلّى عنك. ذلك أنه حالما يتراجع العقل، فإنّنا نرى أمامنا الوجه الكالح للفوضى. عندئذ تنتفي فينا الرغبة في الحياة. الفراغ في كلّ واحد منّا. ووسواس المرض يلاحقنا. نحن أسوأ عدوّ لأنفسنا. وحسنتنا أننا نعرف ذلك. أعتقد أن الإنسان مريض، غير أنه يحمل دواءه في ذاته، ودواؤه هو الفضيلة”. التمسّك بالحياة أغمض كانط عينيه متألّما، اندفع بجذعه إلى الوراء. ثمّ واصل حديثه قائلا: في الحقيقة علينا أن نتمسّك بحياتنا جيّدا خشية أن تهرب منّا. وعلينا أن نعتني بقلبنا حتى لا يخذلنا، وأن نرعى روحنا حتى لا تتلاشى في الفضاء. وقد كانت حياتي كلّها نضالا ضدّ الموت، ضدّ كلّ أشكال الموت. ونحن محاصرون، وملاحقون من قبل الحياة التي تنهكنا، وتميتنا في كلّ لحظة. على الإنسان أن يكون خالق نفسه، وأن يكون ولدا، وأبا لنفسه، وأن يكون أيضا موته، وأمله. ونبل الإنسان في الحياة الدنيا هو أن يكتسب إنسانيّته. انظر إليّ: العمر أرهقني، والموت ينتظر انتصاره. لكن في غروب حياتي، أنظر إلى الخلف للمرّة الأخيرة، وأرى طرقي. لقد حرّكت العالم، وقدتّ حربي، وناضلت من أجل “الأنوار” دافعا إلى الوراء الأشباح، والظلال القاتمة. وقد تغنّيت بالإنسان، وبعظمة العقل، وقلت جمال السّماء، واحترام القلب. وكنت ما أنا أردتّ أن أكون. وكانت الفلسفة ولادتي، كما أنها سوف تكون مماتي. وأنا لست نادما إلاّ على شيء واحد، وأنت تأتيني به في هذا الخريف الجميل الذي يغطي الطبيعة. وهذا الشيء هو أنني عاجز عن أن أولد من جديد في عالم آخر حتى أتذوّق حلاوة الحياة. أيّها الشاب، بإمكانك أن تقول للعالم أن كانط مات حزينا، لكنه عاشق للحياة”. استأذنت في الانصراف. وكانت دموعي تسيل من دون أن اكون قادرا على حبسها. وكانت هناك غربان سوداء تحلّق في السّماء. من هانّا آراندت إلى شولام: تحويل الإسرائيليين إلى عصابة عنصرية خطر دائم تقرأ الرسائل المتبادلة بين هانّا آراندت (1906 ـ 1975)، وغارشوم شولام (1897 ـ 1982) كما لو أنها رواية تروي سيرة صديقين يتقاربان في الأفكار، وفي الآراء، ويعيشان نفس الأحداث والمصائر، ويتقاسمان الحلو والمر. وفي النّهاية يختلفان، وتحدث القطيعة بينها بعد أن باتا على أبواب الشّيخوخة. ومثل شولام ولدت هانّا آراندت في ألمانيا. وفي سنوات دراستها الجامعيّة ارتبطت بعلاقة حبّ عاصفة بمارتن هايدغر، وأعدتّ رسالة الدكتوراه تحت إشراف كارل ياسبرس لتصبح في ما بعد من كبار المفكرين في القرن العشرين. وعند صعود النّازيّة فرّت الى فرنسا، ومنها انتقلت الى الولايات المتّحدة الأميركيّة، وفيها ستقضي بقيّة حياتها أستاذة في جامعاتها المرموقة. وفي مختلف كتبها درست الظّواهر الفاشيّة والشمولية في كلّ من ألمانيا، وإيطاليا، وفي ما كان يسمّى بالاتّحاد السّوفياتي في الفترة السّتالينية. كما دافعت عن مارتن هايدغر الذي هوجم بشدّة بسبب مواقفه المتواطئة مع النازيّة، وكتبت العديد من الدراسات الفكريّة عن مشاهير المفكرين والكتاب من أمثال فالتر بنيامين، وهارمان بروخ وغيرهم. وفي الفترة الفاصلة بين عام 1939 و1962، تبادلت هانّا آراندت 141 رسالة مع المفكرّ اليهودي غارشوم شولام الذي اختار الاستقرار في القدس انطلاقا من عام 1923 من خلالها يمكن أن نرصد مختلف آرائهما في الأحداث وفي القضايا الكبيرة سواء كانت سياسيّة، أم فكريّة أم غيرها. وتطغى على الرسائل المذكورة أجواء الحرب الكونيّة الثّانية، وفظائعها. وفي رسالة تتحدّث هانّا آراندت عن الأوقات الصّعبة التي أمضتها مع فالتر بنياميت في مدينة لورد بفرنسا بعد فرارهما من ألمانيا، وفيها تقول: “ولا قطارا واحدا يتحرّك اليوم. ولا أحد يعلم مصير العائلات، والأزواج، والأطفال، والأصدقاء. أنا وبنجي (تقصد فالتر بنيامين) نلعب الشطرنج من الصّباح حتى المساء، وفي فترات الإستراحة، نقرأ الصّحف إّذا ما كانت متوفّرة”. وعندما ينتحر فالتر بنيامين على الحدود الفاصلة بين فرنسا وإسبانيا، تكتب هانّا آراندت قائلة: “اليهود يموتون في أوروباّ، ويدفنون مثلما تدفن الكلاب”.. وتعليقا على انهيار النّازيّة، كتبت هانّا آراندت تقول: “إنّ ما مات هو القوميّة أو الأفضل من ذلك الدّولة القوميّة كمنظّمة ومهيكلة للشعوب(...).وعلينا أن نخشى إذا ما ظلّت الأوضاع على هذه الصّورة، الاّ يتبقّى شيء آخر غير أن يتحوّل القوميّون إلى عنصرييّن”. وتكشف الرسائل عن المجهودات التي كان يبذلها كلّ من شولام وهانّا آراندت من أجل إعادة ترتيب المكتبات اليهوديّة التي صادرها النّازيّون. كما تتناول الرّسائل تبعات الحرب الكونيّة الثّانية خصوصا قضية آيخمان النازيّ الألماني الذي حاكمته إسرائيل عام 1963 بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانيّة. وكانت هانّا آراندت قد سافرت الى إسرائيل لحضور المحاكمة، والكتابة عنها للصّحف الأميركيّة. لكنّها لم تلبث أن شنّت هجوما عنيفا على إسرائيل معتبرة أن محاكمة آيخمان ظالمة، وتعكس الغطرسة، والتسلّط. وقد كتبت لشولام تقول: “إنّ تحويل شعب (تقصد الشّعب الإسرائيلي) الى عصابة عنصريّة خطر دائم في عصرنا”. وقد أثارت هذه الرسالة غضب شولام فاتهم صديقته بمعاداة إسرائيل، والشعب اليهودي. وقد ردّت عليه هانّا آراندت قائلة إنها لا تحبّ شعبا بكامله، بل أفرادا معينين، هم أصدقاؤها الذين يقاسمونها الحلو والمرّ. وبعد أن نشرت هانّا آراندت كتابها عن قضيّة آيخمان، وذلك عام 1963، تأزّمت العلاقة بين الصّديقين. فكان ذلك سببا في القطيعة النّهائيّة بينهما.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©