الزائر لمعارض وورش التحف والأثاث في مصر لا سيما شارع الصالحية في منطقة القاهرة الفاطمية، يتوقف أمام النقوش التي تزين الخشب وتعرف بفن «الاويما»، حيث تعتبر هي المتمم لصناعة التحف والأثاث والمعبر عن طرازها وأساس تميزها وجمالها، ويطلق المصريون على من يتقن تلك المهنة اسم «الاويمجي»، وتعد حرفة الأويما أو النحت على الخشب من المهن اليدوية الإبداعية الراقية والأصيلة التي اشتهرت بها مصر منذ زمن الفراعنة، واستلهمت خصائصها الفنية والجمالية من فنون الحضارات المتعاقبة على مصر فرعونية ورومانية وإسلامية.
محمد عبدالحميد (القاهرة) - دأب المصريون لا سيما الأسر الراقية على الاهتمام بهذا الفن فاستعملوا الأويما كديكورات في بيوتهم، كما انتشرت في عدد من القصور والفيلات والقرى السياحية وفي المطاعم والفنادق، وهناك إقبال عليها من السياح في البازارات ومحال شارعي المعز وخان الخليلي لشراء الأحجام الصغيرة لأخذها معهم كتذكارات لزياراتهم للقاهرة، وتختلف أسعار كل قطعة وفقاً لمقدار ما بذله الصانع من جهد ونقش. وتكثر ورش الأويما وجماليات النقش على الخشب في مناطق كثيرة من القاهرة لا سيما شارع الصالحية المتفرع من شارع المعز بمنطقة القاهرة الفاطمية، حيث تعد من الحرف اليدوية البارزة في هذا المكان الذي أنشأه السلطان الصالح نجم الدين أيوب، ودفنته فيه زوجته شجرة الدر قبل نحو 800 سنة ومع التوسع العمراني للقاهرة استقر بالمكان عدد ممن يتقنون أسرار مهنة الأويما وكيفية النقش على الخشب وتحويله إلى قطع فنية رائعة.
مهنة تراثية
هشام غراب 44 سنة واحد من العاملين في الحرفة يقول: الأويما تعتمد على الموهبة والإبداع تماماً مثل الرسم بالفرشاة والألوان مع الفارق أننا في الأويما نستخدم الأزميل والخشب. والعمل مع الخشب متعة قبل أن يكون مهنة لكسب الرزق ففي نهاية اليوم، يمكنك أن ترى ما صنعته يداك وان تجد من يشيد بعملك وبجماليات الخطوط ودقة الحفر والتمازج الجميل بين أنواع النقوش المختلفة على الخشب وكيف أضافت لجماليات قطعه الأثاث، ومهنة «الاويمجي» قديمة وتراثية من زمن الفراعنة وتعلمت أسرارها من والدي منذ كنت طفلاً في العاشرة من العمر، واكتسبت مهاراتها وأسرارها بمرور الوقت.
وأشار غراب إلى أنه قبل تنفيذ رسوم الأويما يراعى تحديد المطلوب منه بما يتناسب مع قطعة الأثاث والمدة المطلوبة لإنجاز العمل، فهناك قطعة تحتاج لأسبوعين على الأقل قبل الانتهاء منها و«اويما» تحتاج إلى عمل نموذج ورقي برسمها بالقلم الرصاص على ورق أبيض بدقة كي تتأملها العين جيدا قبل بدء الحفر بالأزميل لاستيضاح عيوب أو جوانب النقص بالرسم في صورته النهائية وهل سيتلاءم مع الذوق العام للأثاث، وبعد الاستقرار على الشكل النهائي والمقاسات والأحجام المناسبة يتم تثبيت قطعة الخشب على بنك الاويمجي بواسطة عدد التثبيت مثل القمط والفتايل لمنع تحركها في أثناء الشغل، ومن الأدوات المستخدمة في مهنة الأويما بنك الأويمجي: وهو من أهم مستلزمات العامل، حيث يؤدى جميع أنواع الحفر عليه وهو قريب الشبه ببنك النجار إلا أنه أكثر منه ارتفاعا نظراً لطبيعة العمل الذي يؤديه الاويمجي، ويتطلب أن يكون جسمه في وضع مستقيم بخلاف النجار الذي يكون في وضع أكثر انحناء، ويتكون البنك من قرصة ينفذ عليها معظم عمليات تشكيل الأخشاب وهو مصنوع من خشب صلب مثل السنديان أو الزان. وهناك أيضاً الأزاميل بجميع أنواعها ومقاساتها ونطلق عليها اسم «الدفر» لأنه يختلف من حيث الشكل عن الأزميل العادي فهو مقوس من الداخل.
نوع الخشب
وقال غراب: تستخدم الدفر بمسكها باليد اليسرى ويجري الحفر بها بالدق براحة اليد اليمني أو بالطرق بالدقماق إذا كان الحفر المطلوب في اتجاه اليسار، وبعكس الوضع السابق تماماً إذا كان الحفر المطلوب في اتجاه اليمين، وبذلك يكون الحفر في الاتجاهين حسب الحاجة المطلوبة، وهناك أيضاً عدد الطرق وهي الدقماق والجاكوش وتستعمل للطرق رغم اختلاف أشكالها وأحجامها سواء كانت مصنوعة من الخشب الصلب أو الصلب الطري، وهناك أيضا المفك والكماشة والزراجنة والفتايل إلى جانب عدد النشر والقطع وأسماؤها غريبة بعض الشيء فلا يعرفها إلا المتخصصون وأبرزها منشار سراق التمساح وسراق الظهر والساحقة والزوانة.
وعن مراحل العمل أوضح: هناك عدة عمليات أساسية يجب أن يؤديها الاويمجى تبدأ بتحديد نوع الخشب وتجهيز الأزاميل اللازمة ومقاس كل أزميل وفقا للرسم المطلوب ونبدأ العمل وهناك رسوم اويما تحتاج إلى قياسات دقيقة وهنا يكون على الاويمجي القيام أولا برسمها على ورق أبيض وتفريغها ثم تثبيتها بدبابيس أو يلصق على قطعة الخشب بالغراء، ثم دق خطوط النموذج الخارجية دقاً راسياً مائلاً قليلاً للخارج بحيث يتماشى مع انحناءات الخطوط وملاحظة الدق بخفة. ثم نزيل الأرضية بالضفرة لعمق مناسب، في كل مساحات الأرضية ثم نقوم بعملية التنجير بالدفر الواسعة لتشكيل عناصر الحفر ثم تشكيل عناصر الحفر مع إبراز معالم النموذج ثم تجرى عملية تنظيف التشكيل والأرضية ويتم التشطيب النهائي.
خشب الجوز والبلوط
وعن أفضل أنواع الأخشاب المستعملة في الاويما، قال جمال الصياد 41 سنة: كل أنواع الخشب تصلح لنقش الاويما عليها، وان كانت هناك أنواع تسهم بخواصها في إبراز جماليات الاويما وتسهيل مهمة الصانع كخشب الزان، وهو أكثر الأنواع المستعملة في الحفر في الوقت الحاضر وهو سهل التشغيل ولون هذا الخشب بني فاتح وأحياناً مائل للحمرة وهو متوسط الصلابة، ويصنع منه أطقم الصالونات المنفذة بالحفر، وبعد ذلك يدهن بالجملكة أو يلصق بالذهب. وهناك أيضاً خشب الجوز وهو من أحسن الأخشاب التي ينفذ بها الحفر لجمال أليافه ولونه بني ضارب إلى السمرة وهذا النوع غالي الثمن ونادر الوجود في الأسواق لارتفاع سعره. وحفر الأثاث المنفذ من هذا الخشب يدهن بالاستر ليظهر جمال أليافه. وهناك أيضاً خشب الماهوجني وأليافه مستقيمة جميلة ظاهرة وعند دهانه بالاستر يظهر لمعانا جميلا، ولون هذا الخشب بني ضارب إلى الحمرة ويستعمل في صناعة الأثاث والحفر النفيس الدقيق الصنع ويحتاج عند حفره لأسلحة مسنونه جداً. وهناك أيضاً خشب البلوط وهو أنسب الأخشاب التي تتحمل الأجواء المختلفة ولونه فاتح جميل ويعمل منه التحف المحفورة بالاويمة ويدهن الاستر على لونه بالجملكة البيضاء والسبرتو الأبيض. وهناك خشب الموسكي وهو من الأخشاب اللينة الوحيدة المستعملة في أشغال الحفر ويطلق اسم آخر على هذا النوع من الخشب وهو خشب سويد ولونه أصفر يميل إلى الاحمرار وأحسن أنواعه الخالي من العقد ويباع بعروض وأطوال مختلفة.
وأوضح الصياد، أن الاويما تدر دخلا مناسبا للعاملين بها لاسيما وان من يطلبون منتجاتها يقدرون ما يبذله الصانع من جهد.. ولكن هناك زبائن يتعاملون معنا من دون معرفة وباستخفاف وهو ما يدفعنا إلى إيضاح ما نقوم به.. مشيرا إلى أنه أحيانا يتقاضى 1000 جنيه كأجر نظير قيامه بنقش الاويما على سرير إسلامي.. وأحيانا يتضاعف المبلغ إذا كان يعمل في دولاب.
ولفت الصياد إلى أن غالبية الزبائن المصريين والعرب يطلبون نقوشا إسلامية بينما الأجانب تستهويهم أكثر الرسوم الفرعونية وهو يجد متعة كبيرة في النقوش الإسلامية.
وقال إن الصانع البارع هو من يتقن كافة الأشكال الزخرفية لاسيما وان قطعة الخشب التي يتولى النقش عليها تتيح له إبراز ما يتمتع به من موهبة من دون تدخل من أحد إلى أن تكتمل اللوحة كعمل فني بديع.
المستورد يهدد صناعتنا
أوضح جمال الصياد أنه رفض مراراً عروضاً للسفر والعمل خارج مصر لأن هذه الصناعة بنت شارع الصالحية ومصر الفاطمية، وروح المكان هنا تلهم الصانع الابتكار، فالاويما ليست مجرد حرفة نسترزق منها، وإنما فن وإبداع ونسعد كلما انتهينا من قطعة ورأينا الإعجاب والانبهار في عيون من حولنا.
وغاية ما يجعله يشعر بالقلق على مستقبل تلك المهنة يكمن في ظهور منتجات مقلدة يتم استيرادها من الصين توحي للناظرين بأنها اويما ولكنها توليفة من الكارتون المضغوط بواسطة الماكينات يتم لصقه على قطع الأثاث وسعرها أقل، وقد أغرق بها بعض المستوردين السوق المصرية وتباع بأسعار رخيصة من منتجات الاويما الأصلية بكثير، وهو ما دفع البعض للإقبال عليها كنوع من الديكور، إلا أن الفارق بينها وبين الشغل اليدوي مثل الفارق بين السماء والأرض، ومن يفهم في الإبداع والفن يعلم ذلك، فالاويما هي أصل الإبداع والفن.
عدد اليوم
