الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«أربيتراج».. التعاطف مع الوحش في دهاليز «وول ستريت»

«أربيتراج».. التعاطف مع الوحش في دهاليز «وول ستريت»
13 أكتوبر 2012
“الرجل الذي يخدع، يجد من يسمح له بأن يخدعهم” قد تكون هذه العبارة التي أطلقها ماكيافيللي ـ الفيلسوف الإيطالي والمنظّر الأشهر للواقعية النفعية في عصر النهضة ـ هي أفضل مدخل يمكن من خلاله قراءة فيلم “أربيتراج” أو “الموازنة” الذي دشن مساء أمس الأول بمسرح قصر الإمارات عروض الدورة السادسة من مهرجان أبوظبي السينمائي الدولي، بحضور نجوم الفيلم الرئيسيين الذين تصدرهم الممثل الشهير ريتشارد جير، مع منتج الفيلم السعودي محمد التركي، والذي أشار مدير مهرجان أبوظبي السينمائي علي الجابري إلى أن دخول التركي في هذه المغامرة الإنتاجية يرسّخ الحضور العربي في هوليوود، ويساهم في ردم الهوة الفنية على مستوى صناعة السينما بين الشرق والغرب. يرتكز “أربيتراج” على فكرة صنع الذرائع وتبرير الغاية، مهما كانت الوسيلة المحققة لهذه الغاية قاسية ووحشية ومتورطة حتى العظم بالخديعة والرياء والتواطؤ الأخلاقي. وسيكون رجل الأعمال الثري روبرت ميللر ـ يقوم بدوره ريتشارد جير ـ هو محور هذه الرحلة الأخلاقية الشائكة في أدغال وول ستريت التي يعوي فيها الجشع، وتتضخم فيها الأنانية الفردية حد العماء والتخبط والسعار المطلق. فالمتاهة الأخلاقية ـ والحال هذه ـ ستكون أيضا مغوية ومغرية للمحيطين بهذا الثري والمنتفعين أيضا من سلوكياته وأساليبه الظلامية والمريبة. فعندما تكون بوصلة المصلحة منحازة لرمز الفساد ذاته، فإن كل الإدانات والأسانيد والدلائل والتهم الموجهة لهذا الرمز سوف تتحول إلى فقاعات زائلة في فضاء مشوّش وملوث ومنذور لخرائبه المتوارية في العمق، ولو بدت أنيقة ولامعة من الخارج. وفي هذا السياق أيضا لن يكون فيلم: “أربيتراج” هو الوحيد الذي تناول تداعيات الأزمة المالية المدويّة التي عصفت بأميركا ودول العالم مؤخرا، ولم يكن الفيلم الوحيد أيضا الذي اختبر الكوارث النفسية والاجتماعية لهذه الأزمة، وما أفرزته من انحرافات وحيل ومكائد لتخطي الخسائر المادية والتلاعب باستثمارات الملايين من المودعين في صناديق المغامرة المالية الفارغة والمهلكة أيضا. ولكن ما يميز “أربيتراج” هو هذا التناول الجريء لشخصية الثري الفاسد الذي يعيش وسط ضغوطات هائلة وأهواء شيطانية، تتوزع على شبكة كبيرة ومعقدة من العلاقات المتداخلة والمتنافرة والشرسة والناعمة في النسيج الاجتماعي والمهني المكون من العائلة والأصدقاء والوسط المخملي وأقطاب المال والأعمال، الذين يمنحون هذا الفاسد شرعية التلاعب الخبيث بمصائرهم اعتمادا على الهالة والنفوذ والسحر والكاريزما الشخصية التي يتمتع بها. فيلم “أربيتراج” من إخراج وكتابة نيكولاس جاريكي في أولى أعماله الروائية الطويلة، التي اعتمد في توليف مساراتها السردية على وقائع اختبرها عن قرب كل من والده ووالدته اللذين تورطا في دهاليز وخبايا وول ستريت، واللذين عانيا من تقلبات هذا العالم الشرس والمليء بالمتناقضات والمرارات والعلاقات المتبخرة والضحلة رغم كل الصيت والصخب والأضواء المحيطة بالمناخ الاجتماعي للأثرياء. يقوم المشهد التأسيسي للفيلم على تبيان هذا التناقض الفجّ الذي يعيشه ميللر، حيث نراه قادما من رحلة عمل مرهقة كي يحتفل مع زوجته ماترون إيلين ـ الممثلة سوزان ساراندون ـ وأبنائه وأحفاده بعيد ميلاده الستين وسط أجواء تعكس مدى الثراء والاستقرار والسعادة الظاهرية التي يعيشها رجل طموح ومتفوق وناجح ماديا وعائليا، ولكن المشهد التالي ينقلنا مباشرة للجانب المعتم والإشكالي في هذه الشخصية، فنراه وهو يتسلل من المنزل بذريعة إنهاء بعض المعاملات العالقة في مكتبه، كي يذهب إلى مخدع عشيقته الفرنسية الشابة التي تعمل في محترف لبيع المقتنيات الفنية، والذي ساهم ميللر في دعمها ماديا من أجل تثبيت أقدامها والترويج لها في سوق الفن. وهذا الخلل لن يكون السر الوحيد في حياة ميللر، فاستثماراته الطموحة بأحد مناجم النحاس في روسيا أصيبت بضربة قاصمة بعد أن قامت الحكومة الروسية بتأميم الاستثمارات الأجنبية، ما نتج عنه عجز وصل إلى أربعمائة مليون دولار في صندوق الشركة التي يديرها ميللر، وللخلاص من هذه الورطة يلجأ لاستدانة المبلغ من أحد الأثرياء، وتحت ضغط المطالبة بالدين والفوائد المترتبة عليه، يلجأ ميللر لحيلة شيطانية أخرى وهي محاولة بيع الشركة لإحدى البنوك الشهيرة في أميركا ومن دون الكشف عن هذا الخلل أوالعجز في الأرصدة المالية، حتى لا يساق إلى المحكمة بتهمة الفساد المالي والتلاعب باستثمارات المودعين في صندوق الشركة. ولأن المصائب لا تأتي فرادى، يتورط ميللر في حادثة سير تذهب ضحيتها عشيقته الفرنسية الذي كان ينوي اصطحابها في رحلة رومانسية مفاجئة، بينما ينجو هو بأعجوبة، فيحاول جاهدا إخفاء آثار الجريمة والفضيحة الاجتماعية التي سوف تصيب كل خططه لإنقاذ الشركة في مقتل. يلجأ ميللر لأحد المراهقين السود في حي هارلم كي ينقذه من هذه المشكلة الطارئة، وكي يخفي معه الأدلة الجنائية المشيرة إلى تورطه في الجريمة، خصوصا وأن هذا المراهق يحمل في عنقه جميلا لا ينساه لميللر عندما ساعده ماديا واعتنى بوالده المريض قبل وفاته والذي كان يعمل سائقا لدى ميللر، وتتوالى المتاهات الجنائية عندما يتصدى للقضية محقق متحمس وذكي ـ يقوم بدوره الممثل البريطاني الموهوب تيم روث ـ المتأكد من كذب المراهق الأسود وتورط ميللر في القضية، ولعدم وجود أدلة ملموسة تدين الاثنين، يلجأ المحقق إلى التزوير ووضع لوحات سيارة المراهق الذي هرّب ميللر على لوحات سيارة أخرى كانت قريبة من موقع الحادث. وفي ثنايا المطاردة الهيتشكوكية هذه يلجأ المخرج إلى صياغة توتر درامي يتخلّق من داخل النسق التتابعي للسرد وليس من خارجه، في محاولة منه لضخ الإثارة النفسية وجذب المشاهد إلى التصاعد المتسلسل للأحداث وصولا للذروة التي نكتشف فيها مدى الفاسد المستشري داخل منظومة الحياة المحيطة بميللر، فرغم اكتشاف ابنته ـ الممثلة المتميزة بريت مارلينج ـ التي تعمل مستشارة مالية في شركة والدها للتزوير المتعمد الذي قام به الأب في الدفاتر المالية، ورغم اكتشاف زوجته لخياناته المكررة مع العشيقة الفرنسية، ورغم معرفة رجال الأعمال المحيطين بميللر لنواياه الداكنة وأساليبه الملتوية، إلا أن الجميع في نهاية الفيلم يقدمون له صكوك الغفران والبراءة والنسيان، لأن المصلحة الذاتية والعامة تجبرهم على الرضوخ للأمر الواقع، وكأن هناك تعاطفا خفيا مع الوحش الذي يرتدي لباس الرجل الأنيق والنظيف والبريء في كل الأحوال، في إشارة ربما يقدمها الفيلم للتأكيد على أن الضحية والجلاد يمكن لهما في ظرف ما أو زمن ما أن يبتكرا حلا وسطا أو يقدما تنازلات مشتركة، سواء من خلال ترويض القسوة ووضع ماكياج مزيف الخديعة من قبل الجلاد، أو من خلال الاستسلام لشرط الظرف والحالة، وإسكات صوت الألم وطمسه قسرا في دواخل الضحية.
المصدر: أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©