الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جوليان بارنز: لنتحدث عن النسيان

جوليان بارنز: لنتحدث عن النسيان
29 أكتوبر 2011 13:38
توصف “الإحساس بالنهاية” للروائي اللانجليزي جوليان بارنز، التي هي نوفيلا (رواية قصيرة أو قصة طويلة)، والتي حازت الأسبوع الماضي على جائزة “المان بوكر” الأم لدورتها الثالثة والأربعين، بأنها رواية فلسفية أو رواية تأمل في الماضي الشخصي بكل ما ينطوي عليه من ثِقَل في الذكريات التي يرقبها المرء إذ يرى نفسه فيما تعبر به نهر الزمن إلى ضفته الأخرى. حازت “الإحساس بالنهاية”، الصادرة عن جوناثان كامب ـ راندوم هاوس، على الجائزة الأولى على الرغم من وجود روايات أخرى تناقش، عموما التجربة الفردية في الوجود الإنساني عبر جملة أحداث وانتقالات بين عوالم متعددة ومتنافرة من خلال شخصيات غير متوقعة وتراكيب وبُنيات سردية متفاوتة الأنواع لكنها “آسرة” أو “فاتنة” بحسب ما جاء في العديد من المواقع الالكترونية التي تابعت الحدث، مثل: “وحوش جامراش” لكارول بريتش الصادرة عن كانونغيت بوكس، و”حمامة انجليزية” لستيفان كيلمان الصادرة عن بلومز بيري، و”أزهار الثلج” لإيه. دي. ميللر الصادرة عن أتلانتيك، و”بلوز هجين” لإيسي ادواغيانع، التي تعود أصولها إلى غانا الأفريقية، الصادرة عن سيربنتس تيل ـ بروفايل، و”إخوة الأخوات” لباتريك ديويت من كندا عن الصادرة غرانتا بوكس، وهي الروايات الخمس الأخرى التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة. أيضا يشيع عن هذه النوفيلا أنها تنتمي إلى السيرة الذاتية كنوع أدبي ربما نظرا لوجود تقاطعات واضحة للعيان بين الحياة الشخصية لجوليان باربز وشخصيتيْه الشقيقين لكن الروائي يقوم بالتمويه على تلك التقاطعات بإضفاء نوع من التعراض في هذه الذكريات بين الأخوين فيبدو ما هو يقيني هنا مجرد احتمال أو من الممكن أنه قد تحقق هناك وذلك في إطار فلسفي يتأمل في فناء الجنس البشري فيكتب الروائي على لسان إحدى شخصيتيه: “إنني واثق جدا أو أمارس خداعا للنفس، لذلك سأواصل كما لو أن ذكرياتي كلها حقيقية”. وبإزاء هذا الخليط المركَّب من الذكريات والأشواق العليا والندم وعبث (أو عدمية) الوجود الإنساني بوصف ذلك أيضا إحساس بالذات ووعي بها على ما كانته وعلى ما هي عليه الآن لا يبقى سوى الحديث عن النسيانات في مقابل الحديث عن ذكريات تصوغ فكرة الأفراد عن انفسهم لكنْ ما من يقين بحدوثها. يقتبس أحد النقاد الانجليز من الرواية هذا المقطع الأخّاذ من “الإحساس بالنهاية”: “نحن نتحدث عن ذكرياتنا، لكن ينبغي أن نتحدث، ربما، عن نسياناتنا حتى لو كان ذلك أكثر صعوبة، أو ممكنا منطقيا”. ثمة إفراط في توصيف العجز الإنساني، إذا جاز التعبير، بحسب هذه التأملات الفردية والتي قد تكون نتاج عزلة جرى تأثيثها على مَهَل بقراءات خاصة للمنجز الإبداعي لتيار أدبي ما زال يمارس تأثيره في الأدب الغربي وهو التيار اليأس المعرفي الذي بدأ مع “فاوست” غوته ربما ولم يتوقف عند حدود موجة العبث في الأدب والمسرح، أي ذلك التيار الذي يناقش مأزق وجود الفرد في تجربة العيش والحياة وموقعه من العالم ومن المعرفة، إجمالا. وكان جوليان بارنز قد وصل، سابقا، أربع مرّات إلى القائمة القصيرة للمان بوكر بدءا من الثمانينات على النحو التالي: “ببغاء فلوبير” العام 1984 و”آرثر وجورج” العام 2005 و”انجلترا، انجلترا” العام 2008. وقد رأست “المان بوكر” لهذا العام دامي ستيلا ريمنغتون، وهي مؤلفة انجليزية حازت شهرة واسعة من جرّاء اهتمامها بما يُسمّى أدب الجاسوسية، وكانت دراستها الجامعية في الدراسات التحليلية الأرشيفية التي أنهتها من جامعة ليفربول العام 1958. أيضا حياتها العائلية غامضة بعض الشيء. وقد ولدت في الثالث عشر من مايو في العام 1935، في جنوب لندن. إذن لماذا كان اختيار الكاتبة دامي ستيللا ريمنغتون قد أثار استغراب كتّاب وصحفيي الصحافة الثقافية الناطقة بالانجليزية ومتابعيها معتبرين أن هذا الاختيار لم يكن متوقعا؟ خاصة وأن هذه المرأة “الحديدية” لم تحترف الكتابة إلا بعد تقاعدها من عملها الذي كان عملا احترافيا من طراز رفيع في حقل الجاسوسية، حيث أن من المعروف أن ستيلا ريمنغتون قد عملت سابقا بوصفها جاسوسة بريطانية في موسكو إبان الثمانينات من القرن الماضي وحققت نجاحات عديدة في عملها هناك رغم انفصالها عن زوجها وبقائها وحيدة. فاستطاعت اختراق جهاز الاستخبارات السوفييتي آنذاك: “كي جي بي” وإقامة علاقات “خاصة” مع عدد من رجالاته وتحويلهم إلى عملاء مزدوجين، بل إن العديد من هؤلاء ينظر إليها باحترام نظرا لما استطاعت ربة البيت هذه من إنجازه لبلادها إلى حدّ أنها أصبحت جديرة برئاسة جهاز الجاسوسية البريطاني بأكمله ولأربع أعوام متتالية. وقد سجلت ستيلا ريمنغتون أول ظهور علني لها على شاشة البي بي سي الثانية البريطانية العام 2001، هي التي بدأت نشاطها الاستخباري في الهند العام 1965 عندما كانت زوجة لرجل دبلوماسية بريطاني وتشعر بالضجر فعرضت خدماتها على MI5 لتصبح بذلك عميلة للجهاز. عُهد عنها أثناء فترة رئاستها للجهاز اهتمامها بأمرين أساسيين بالنسبة لها يتعلق الأول بإعادة بناء شبكة الجاسوسية في البلدان التي انحل عنها ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتي وتحديدا روسيا، ويتعلق الأمر الآخر بالنساء الجاسوسات، فقد أولتهن اهتماما خاصا وسعت إلى أن تحفظ لهن حقوق الأمومة والطفولة أثناء أدائهن واجباتهن الاستخبارية. لكن اختصاصها الأساسي ظلّ في مكافحة المنظمات التي كانت توصف بأنها “إرهابية” آنذاك سواء أكانت إسلامية أم لا. وتصف ستيلا ريمنغتون نفسها بالقول: “أنا امرأة مختلفة ومَن عرفني عرف ومَن سيعرفني سيعرف ذلك”. بعد خروجها من الجهاز شغلت ستيلا ريمنغتون منصب مدير عام المحال التجارية اللندنية المعروفة “ماركس آند سبنسر” واستهلت تأليفها بكتابة سيرة ذاتية بعنوان: “سرّ مفتوح”، وحتى الآن أصدرت ثلاث روايات: “عرضة للخطر”، و”شخص سري”، و”فعل غير قانوني”، وصدرت جميعا في لندن عن راندوم هاوس. كان اختصارُنا أعظم من فضولنا * أتذكّر، بتتابع وعلى نحو غير شخصي: باطنَ رسغٍ لامعٍ؛ بُخارا يتصاعد من بالوعة غير جافّة قطراتٍ من سائل منويّ تحيط بثَقْب، قبل أنْ تكون متحجِّرة أسفلَ الامتداد الكامل للبيت الشاهق؛ نهرا يتدفّق ضد التيّار على نحو عبثي؛ أُضيئَتْ موجاتُه وطميُه بنصف دزينة من مشاعل مرصّعة بالجواهر؛ ونهرا آخر، عريضا ورماديا، يتقنّع اتجاه جريانه بريحٍ قويّةٍ تُهيِّجُ السطح؛ مياهَ استحمام ذهبت طويلا في البرد خلف بابٍ مغلق. هذا الأخير لم يكن شيئا ما قد رأيته حقيقةً، لكنّ ما تنتهي إليه في أعلى التذكّر ليس دائما هو نفسه ذلك الذي كنتَ شاهدا عليه. عشنا في وقتٍ ـ غيّبنا وعفّننا ـ لكنْ أبدا لم أشعر أنني قد فهمتُه جيدا جدا. ولست أعزو إلى نظريات كيف ينثني ويرتدّ إلى الوراء، أو إنْ بإمكانه أنْ يوجد في أيّ مكان آخر في طَبْعات متطابقة. لا، أقصد الوقت الاعتيادي؛ وقت كلِّ يوم، الذي هو ساعات حائط وساعات يد تطمئننا باقترانه بـ: تِك ـ توك أو كلِك ـ كْلُك، باطّراد. هل يوجد أيُّ شيءٍ من الممكن قبوله أكثر من المُستعار؟ وما زال فحسب، يُصادر سعادتنا الأصغر وألمنا كي يعلمنا قابلية الوقت للطَواعية والطَرْق. البعض من الانفعالات تُسرع في ذهابها إلى الأعلى، وأخرى تبطئُ هابطة إلى الأسفل، أحيانا، إنها تبدو وقد حُذِفَتْ ـ حتى النقطة النهائية منها، عندما تُحذَفُ حقيقةَ ـ ولن تعود أبدا. *** لا آبَهُ كثيرا إلى أيام المدرسة، ولا أشعر بأيّ حنين إليها. لكنّ المدرسة هي حيث كلُّ شيءٍ قد بدأ، لذلك أحتاج إلى العودة، باختصار، إلى البعض من الأحداث تلك التي نَمَتْ في الحكايا؛ وإلى القليل من بعض الذكريات المتقاربة التي مسخها الوقت إلى حقائق لا ريب فيها. فإذا كنت غير قادرٍ على أنْ أكون أكيدا من الأحداث الحقيقية أكثر، فإنّ بوسعي، على الأقل، أن أتحقق من ذكريات غامضة هي حقائق قد غادرت. هذا أفضل ما يمكنني أنْ أنجح فيه. كنّا ثلاثة، وهو قد جعل منّا أربعة. لم نتوقّع أن نضيف إلى رقَمِنا محكم الإغلاق أحدا: عُصبةٌ أو اثنان متآلفان، قد حدث ذلك من قبل بكثير، ثمّ إننا، قُبَيْلَ الآن، كنّا نتخيّل فرارنا من المدرسة إلى الحياة. كان اسمه أدريان فِنّ، فتى طويلا وخجولا، يُبقي عينيْه إلى الأسفل ورأيه لنفسه. لليوم الأول وربما الثاني، أخذْنا نرقُبُه قليلا: عند بوّابة المدرسة كان هناك تمسّكٌ شديدٌ بشكليّات تقليدية غير مرحِّبَة بنا، تركتنا وحيدين قُبالتَها، الاستهلال الذي يُعاقبنا. فقط، سجّلْنا حضورَهُ وانتظرنا. كان الأساتذة يهتمون به أكثر منّا. وَجَبَ عليهم أن يخلّصوه من إدراكه للنظام الصارم وإحساسه به، وحسبوا جيدا كيف كان قد تعلّم سابقا، ومن ثَمَّ فيما لو كان بوسعه أنْ يثبت جدارته بـ”لوازم المنحة الدراسية”. في الصباح الثالث من نهاية ذلك الخريف، كان لنا درس في التاريخ مع أولد جو هنْتّ، الدمِث ببذلته التي من ثلاث قطع مثيرة للسخرية، الأستاذ الذي كان نظامَ رقابةٍ غيرَ مستقلٍّ على التدخّلات غير المشروعة بما يكفي، لكنْ دون إفراطٍ في التسبب بالضجر. “الآن، سوف تتذكر أنني طلبْتُ منك القيام ببعض القراءة التمهيدية عن فترة حكم هنري الثامن”. كولن وأليكس وأنا، انحرفت عينا كلٍّ منا نحو الآخر، آملين أن ذلك السؤال لن يمرّ بسرعة خاطفة، مثل ذبابة صنارة الصيد، فإلى الأرض على رأس واحدٍ منّا. “مَنْ كان بمقدوره أنْ يرغَبَ في تقديم وصفٍ عن ذلك العصر؟” لقد انتزع استنتاجه من عيوننا التي تتفادى. “حسنا، ربما مرشال بمقدوره ذلك، كيف سوف تصف فترة حكم هنري الثامن؟”. كان اختصارُنا أعظم من فضولنا، لأن مرشال كان لا يعرف شيئا وحذِرا هو الذي تعوزه المقدرة على إبداع الجهل الحقيقي. بحث عن التعقيدات الممكنة والمخبوءة في السؤال قبل أنْ يستقرّ على إجابة في آخر الأمر. “ثمة هَياجٌ شعبيٌّ، سيدي”. اندلع تكلُّفٌ، بالكاد، مراقَبٌ، غالبا اصطاد نفسه يبتسم. “أسوف تعتني بتفاصيل أكثر ربما؟”. وافق مرشال بإيماءةٍ بطيئةٍ من رأسه، فكّر قليلا ثم قرّر أنه لا وقتَ للحذَر. “قلتُ، ثمة هياج شعبي عظيم سيدي”. “فِنّ، بالتالي، أأنتَ حسنُ الاطلاع على هذه الفترة؟” كان الفتى الجديد جالسا في الصفّ الأمامي وإلى اليسار بالنسبة لي. لم يُظهر أيَ ردّ فعلٍ واضحٍ على حماقات مرشال. “ليس كذلك، سيدي. أنا خائف. كان هناك اتجاه في التفكير يتبع كل ذلك الذي يمكنك أن تقوله على نحو حقيقي عن أي حدث تاريخي ـ حتى عن الهياج الشعبي للحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال ـ هو أن ذلك قد “حدث بعض الشيء”. “أهو، حقّا؟ ذلك سوف يتسبب بطردي من عملي، ألن يحدث ذلك؟” بعد القليل من الضحك المفتعل، صفَحَ أولد جو هنْتّ عن تبطُّل عطلتنا ثم شَغَلَنا مؤقتا بالقصّاب الملكيّ متعدد الزوجات. عند الاستراحة التالية، أدركت فِنّ بمنأى عن الأعين. “أنا توني وبستر”. نظر إليّ بحذَر. “اتجاه عظيم لهنْتّ”. بدا أنه لم ما الذي كنتُ أشير إليه. “عن شيءٍ ما يحدث”. “أوه، نعم، كنتُ بالأحرى مُحبطا وهو لم يدرك ذلك”. ذلك لم يكُنْ ما افترضَ هو أنْ يقوله. * مقطه من الرواية الفائزة “الإحساس بالنهاية”
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©