الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مبروك على تونس

8 نوفمبر 2014 23:46
فازت حركة «نداء تونس» التي يرأسها الباجي قائد السبسي بالانتخابات التشريعية التونسية، تلتها حركة النهضة بزعامة الغنوشي الذي أقر بالهزيمة وهنأ في جو من السلم الاجتماعي والشرعية الدستورية والنزاهة الانتخابية، غريمه السياسي، قبل أن يعلن هذا الأخير أنه لن يحكم تونس بمفرده. هذه النتائج في بيئة انتخابية عادية جعلت أكثر من متتبع يراجع أوراقه: فقليل هم الذين تكهنوا بأن حركة «النهضة» حتى ولو انخفض عدد المصوتين لها في الداخل والخارج، لن تبقى في الرتبة الأولى، وأن السبسيين وهم شخصيات قادمة من اليسار ووسط اليمين ورموز من النظام السابق، سيحصلون على الرتبة الأولى لأنهم في نظر الجمهور رموز الإدارة. تونس التي كان أزيد من 80 بالمائة من الكراسي البرلمانية تعطى باسم القانون لحزب «التجمع الدستوري الديمقراطي» في عهد بن علي، تستحق التهاني الحارة من كل عربي يحلم بقيام نهضة وطنية في كل دولة من أقطاره.. فلا الجيش كان خائناً أو متهوراً، بل كان محايداً وحامياً للدولة والمؤسسات ومحارباً لرموز الإرهاب الداخلي والعابر للقارات، ولا النخبة السياسية التونسية كانت دون المستوى المطلوب، ولا الإسلاميون (وهذا هو المهم) كانوا متعنتين أو أصحاب غلو، ولا كان هناك تدخل خارجي مخرب للقشرة الحامية للدولة، كما في ليبيا واليمن والعراق ولبنان وغيرها. ولا غرو أن أفضل درس يمكن أن نستقيه من التجربة التونسية (حماها الله من عين كل حقود حسود) هو أن التعاقد على مشروع مجتمعي هم أساس النظام الديمقراطي. فلا يكفي نظام سياسي أن يقوم على أساس دستوري، وأن يشهد زيادة لا حصرية في عدد الأحزاب، وأن يجسد ذكاءه في النظام التمثيلي والنيابي.. فلحظة البناء الديمقراطي تستلزم ترجمة تلك النوايا الحسنة والأدوات السياسية السليمة والإجراءات القانونية إلى نظام للمجتمع، وإلى حياة سياسية مستقرة تتحول فيها سلطة الدولة إلى ميدان لمنافسة حرة ونزيهة وشريفة بين كل القوى والجماعات السياسية المتنوعة. بمعنى -كما يقول حراس العلوم السياسية المقارنة- أن البناء الديمقراطي المتكامل يبدأ من الاعتراف بالحق في الرأي والتعبير وفي التنظيم وفي التمثيل، وصولاً إلى الاعتراف بالحق في السلطة على أساس الإدراك العميق بأنه حق عام من حيث هي ملكية عمومية. عند هذه النقطة فقط، تصبح الديمقراطية بالفعل نظاماً سياسياً، وعقيدة للدولة، وليس مجرد إجراءات تحسينية لتنفيس احتقان اجتماعي أو امتصاص ضغط خارجي. الإسلاميون في تونس فهموا الدروس القادمة من مصر وليبيا وغيرهما. الشعوب لا تحتاج إلى شعارات مدوية ولا إلى خلط بين الأغراض السياسية والأهداف الدينية، لأنه عندما يزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين يقع مشكل كبير في المجال السياسي العام ويتحول إلى حلبة صراع لا تخمد وإلى أتون لا يهمد، ويضع بعض من حملته للانتهازية عنواناً من الدين وللجشع أسماء من الشريعة، وكل هذا يؤثر على الدين والسياسة والمجتمع والأفراد. الشعوب بحاجة إلى بناء مجتمعاتها اقتصادياً وتعليمياً وتنموياً وثقافياً، وعلى أسس سليمة. الدين بخير ولله الحمد، والذي ينقصنا هو الأدوات الصحيحة لقيادة شعوب القرن الحادي والعشرين الذين تأخرت مسيرتهم الحضارية، ونمت فيهم تيارات ركبت على الكثير من المخالطات والتداخلات والمغالطات. تونس مقارنة مع دول الاحتجاجات العربية لما بعد سنة 2010 (مصر، ليبيا، اليمن، سوريا..) نموذج يحتذى به على قاعدة إجماع سياسي وثقافي على مشروع مجتمعي مشترك، يعبر عن ثوابت عليا للشعب والأمة.. فلا حزب «النهضة» اتهم القائمين على العملية الانتخابية بالتزوير، ولا بخس من قيمة حركة «نداء تونس»، ولا هاته الأخيرة قررت فيما سيأتي من تشكيل للحكومة ومؤسسات الدولة، الانفراد بالحكم والتسيير، بمعنى أن السلطة السياسية أصبح لها معنى، وليست إلا مدخلاً وظيفياً إلى تحقيق المشروع المجتمعي وصيانة الثوابت، حيث تتحول الأحزاب والقوى والبرامج إلى أدوات وأساليب عمل في بحث دائم لمقاربات وتوافقات للمشروع الوطني ومداخل سليمة لإنجاحه. وهذا هو المطلوب في المرحلة الحالية، وهي مرحلة حساسة من تاريخ الدول العربية، وبدون ذلك لا يمكن القطيعة مع النزعة الشمولية والسلطوية، وسيبقى الفتك بالجسم الاجتماعي قائماً وهي لعنة ما بعدها لعنة.. دول تصل إلى المريخ وتحقق الرخاء لشعوبها وأخرى تبقى غارقة في أوهام وأوحال وفتن. د. عبدالحق عزوزي* *أكاديمي مغربي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©