الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العودة لعصور الطاعون

8 نوفمبر 2014 23:46
في سنة 1996 كتب العالم الانتربولوجي الفرنسي الشهير «كلود ليفي شتراوس» مقالة ذائعة في سياق موجة الرعب الهائلة آنذاك من ظاهرة «جنون البقر»، التي اجتاحت أوروبا، ذهب فيها إلى أن الحضارة العمرانية المستقرة ذات الثقافة المكتوبة (التي بلغت أوجها في المدنية الغربية الحديثة) قامت على الفصل الجذري بين عالمي الإنسان والحيوان من خلال عدة آليات رمزية ومادية من أهمها الانتقال من أكل لحم البشر إلى استهلاك لحوم الحيوان بعد طبخها على النار. واعتبر شتراوس أن وباء جنون البقر أجج خوف الإنسان المعاصر من العودة إلى حالة أكل لحم البشر نتيجة لاختلاط علف الماشية بلحوم الميتة المفرومة، مما فرض الفصل الوقائي بين البشر والحيوانات المدجنة الأليفة. وبعد «جنون البقر» و«إنفلونزا الطيور»، هاهو فيروس «إبيولا» يحدث حالة الرعب نفسها، وهو المرض الغريب الذي ظهر في سبعينيات القرن الماضي في غابات وسط أفريقيا منتقلا للإنسان من قرود الشمبانزي. وصل فيروس إبيولا إلى أوروبا وأميركا (إسبانيا والولايات المتحدة)، ورغم أن الأمر لا يتعلق بأكثر من حالتين معزولتين، فإن أجواء الخوف التي ولّدها الفيروس القادم من غرب أفريقيا حيث حصد خمسة آلاف ضحية، تشبه إلى حد بعيد الذعر من وباء الطاعون في العصور الوسيطة. الفرق الكبير بين حالتي الخوف هو أن عصور الحداثة قامت على ترويض الخطر والقضاء عليه بدل النظر إليه في أبعاده الميتافيزيقية كعقوبة أخلاقية على الشر (التصور اللاهوتي للخطيئة الأبدية كما في التقليد المسيحي). وترمز قصيدة الشاعر والفيلسوف الفرنسي «فولتير» حول «زلزال لشبونة» (1755) لهذا الرفض لتفاؤلية الإيمان مقابل مأساة الإنسان، وهو ما عبرت عنه منظومة التنوير والحداثة السياسية بنموذجين أساسيين هما: - نموذج السيطرة على الطبيعة الذي أفضى إلى العلوم التجريبية الدقيقة في نزوعها التقني الذي يحول الطبيعة من قوة خارقة ومخيفة إلى مادة قابلة للتصرف والاستغلال لتحرير الإنسان من الحاجة والخوف. - نموذج بناء الدولة السيادية المطلقة المحتكرة للعنف التي بمقدورها تأمين الإنسان من مخاطر الاقتتال وتوفر له السلم الضروري للعيش المرفه والإبداع الصناعي والفكري. ومن خلال النموذجين توطد وعي الإنسان الحديث بالأمن، ولم تعد المجتمعات الليبرالية الصناعية متخوفة من المخاطر المهددة لسلام الفرد والجماعة، مثل المجاعات والأوبئة والحروب، إلى حد أن الأدبيات الوجودية في النصف الثاني من القرن العشرين ركزت على وصف رتابة وعبثية حياة الإنسان المعاصر الذي لم يعد يشعر بالخوف من الخطر الخارجي وإن كان يشعر بغصة القلق الذي ميزه هايدغر عن الخوف بكونه حالة وجودية ذاتية ليس لها مصدر محدد من الخارج، واعتبره «جان بول سارتر» التعبير الحي عن حرية الإنسان «المقذوف» في العالم و«المكره» على ممارسة مسؤوليته اتجاهه. بيد أن العقود الأخيرة شهدت تنامي أنماط جديدة من الخطر في مقدمتها الفيروسات العابرة للقارات والأزمات المناخية وحركية الإرهاب.. أفضت إلى ما عبّر عنه عالم الاجتماع الألماني «الريتش بك» بمجتمعات الخطر التي يتساوى فيها الناس أمام المخاطر نفسها، في حين كانت المجاعات والأوبئة قديماً تفتك بالفقراء ولا تصل للأغنياء. الخطر حالياً لا يصدر عن تهديد خارجي ، بل هو مكون بنيوي من مكونات المجتمع الراهن. وباعتبار أن الإجابات الميتافيزيقية حول مصدر الشرور لم تعد مقنعة في الغرب، فإن المسؤولية أصبحت محصورة في الإنسان نفسه وفي طبيعة خياراته العلمية والمجتمعية، ومن هنا النقمة الواسعة على حضارة النمو الصناعي والتقنيات المدمرة للتوازنات البيئية والتكنولوجيا العسكرية المهددة للوجود الإنساني على الأرض. في روايته الرائعة «الطاعون» يصف الأديب الفرنسي «البير كامو» اجتياح وباء الطاعون لمدينة وهران الجزائرية تحت الاحتلال، مبيناً مشاعر الضعف الإنساني والعجز والحيرة إزاء مأساة وجودية كبرى لا تترك أحداً بمنأى عن الخطر. ما نعيشه راهناً هو الشعور بأن العالم كله تحول إلى مدينة محاصرة بأشكال الطاعون الجديدة التي لا سبيل لاستباقها، وكما يقول كامو نفسه «من الجبن أن تواجه الأحداث باليأس ومن الجنون أن تأمل في القدر الإنساني». د. السيد ولد أباه* *أستاذ الفلسفة -جامعة نواكشوط
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©