الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

يوسف أبولوز يكتب القلق الوجودي وغربة الروح

يوسف أبولوز يكتب القلق الوجودي وغربة الروح
26 أكتوبر 2013 00:51
عندما تضيق فسحة الأمل، وتتكسر الأحلام على شواطئ الأيام، تستحيل الروح أو النفس البشرية، إلى كتلة من الشقاء الفائق بعذاباته وآلامه وأوهامه، فتتوسل الفرار من الحاضر لاستعادة الماضي، لعلها تستعيد بعض عافيتها بنزقها وطيشها، بحماقاتها وشقاواتها أو القليل من نداوتها، للتخفيف من قسوة اليباس والجفاف، فيما تبقى من الأيام، ليمضي قطار العمر بسلاسة إلى محطته الأخيرة، من دون عذابات أو جروح إضافية. فتصبح الحياة بهذا المعنى ضرباً من الأقدار المؤجلة، الغارقة في دوامة الانتظار لمرتجى أو مأمول لا يأتي، ولن يأتي، وإن أتى، فتكون النهاية الموغلة بالحصاد المر، والمونة الأَمَرّ. هذه هي الصورة الأولى التي يخرج بها قارئ الشاعر يوسف أبولوز، في مجموعته الشعرية الجديدة “زوجة الملح” آخر إصدارات سلسلة كتاب “دبي الثقافية”. وربما تكون صورة قاسية بعض الشيء أو سوداوية أكثر من اللازم، ولكنها تتكئ على خلاصتين: الخلاصة الأولى: تستدرجها ملاحظة الشاعر، التي أثبتها في نهاية المجموعة، حينما أشار إلى أن قصائدها كتبت على مدى خمسة عشر عاماً، ما بين الإمارات وعمان. فالملاحظة بذاتها تكشف بداية أن الشاعر ليس مواظباً على الكتابة الشعرية، بوصفه ــ أي الشاعر ــ، كرادار لاقط لمفردات وصور المعيوش اليومي المتخشبة أو الميتة، ليعيد خلقها وهندستها بصورة إبداعية أكثر جمالاً واكتنازاً للمعنى، ومن ثم إرسالها للواقع مرة أخرى. وبالتالي هو ليس لسان زمنه، أو لسان حاله، بصفته فاعلاً أو متفاعلاً بتناغم وانسجام مع زمنه، وإنما هو لسان ذاته المشروخة أو المشطورة، بين ما كان يرجو ويأمل، وبين ما هو كائن في الواقع المر، الذي يرفضه الشاعر بكل قباحاته وسُوءاته، ما يعني أن الشاعر كان يكتب تنفيساً عن ذاته المحتقنة أو المتخمة بالخيبات والانكسارات. كذلك كان يفترض بالتباعد الزمني الطويل أن يترك أثراً أكثر وضوحاً أو بياناً على أسلوب الشاعر، وهذا لم يكن ملحوظاً، بالشكل الذي يمكن اكتشافه بيسر، لولا ثبت الملاحظة في نهاية الكتاب. الخلاصة الثانية: تكشف عنها القراءة الأولى لمجموعة “زوجة الملح”، بحيث بدت أن “التيمة الشعرية” - إن صح هذا التعبير - أو الناظم الوحيد لعقد شعرية المجموعة، على امتداد قصائدها المائة وسبع وستين، هي المنفى بمعنى من المعاني أو الغربة الممتدة من تخوم الدار أو أقاصي الوطن، إلى قيعان الذات، المُتَرَحِلَةِ أبداَ، التي لا تعرف القرار، وسط زحام الأحلام المجهضة، والخيبات المتتالية، والجروح الغائرة في الأعماق السحيقة لذات متشظية، بمتواليات طردية مستمرة إلى ما لا نهاية، وموزعة في أقاصي الاغتراب على كل المستويات المادية والمعنوية أو النفسية. إن الاستعادة التي تتوسلها ذاكرة الشاعر، تبدو جارحة، حتى في أكثر مواضعها دفئاً وحميمة، فالقصيدة الأولى في المجموعة، التي يبدو في مستهلها، وكأنه يناجي روح الأم الحانية، لتطبطب على روحه القلقة، ولكنه يختمها بالوحدة أو العزلة، حتى ولو كان بين الآخرين، ولو كان من أكثرهم فصاحة وبلاغة، فيقول: “أمي سقتني دلو ماء، دلوها المغروف من بئر لها، في حوش منزلها، وأمي حممتني بالسحابة عندما مرت بمنزلها سحابة. أمي الجميلة بنت هاشم، والوسيطة بين أختيها وأسمتني على اسم النبي، فصرت في أهلي عزيزاً، ليس يشبهني أخي، .. قمراً خجولاً فوق غابة “، إلى أن يقول في نهايتها، “واكون في الرعيان منفرداً صموتاً.. لو خطبت أكون أبلغهم خطابة “. وفي قصيدة “الحياة”، يستهل القول، بما يشبه هذيان النائم أو ما يكفي من اليأس، لعقد جدلية الخيبة والإحباط بصورية نهائية تغلق الآفاق من حوله، إذ إنه يركض ويلتفت خلفه، خشية أن يكون الغزاة وراءه، ويركض، ويركض.. من دون أن يصل، وتصل المفارقة إلى أقصاها غرابة وسوداوية، حينما يكتشف أن الغزاة سبقوه إلى بلاده، على الرغم من الركض والحذر، بمعنى أنه كان يركض إلى بلاد كانت تفر منه، ومع ذلك فهو لا يُحمل وزر فرارها أو ضياعها لأحد سواه، وهنا يغور الجرح عميقاً، بحيث يتخطى بأوجاعه إلى أبعد ما في النفس الإنسانية من طاقة على الصبر والاحتمال، فيقول: “كلما أتقدم في العمر أعرف أن بلادي أمامي فأحث الخطى وأخفف أمتعتي لأطير إليها وأنظر خلفي لئلا يكون الغزاة ورائي. أتلفت ثانية وأحث الخطى صائحاً يا بلادي “انطريني” قليلاً بلادي “انطريني”. إنني الآن في آخر القرن ما زلت أركض والعمر يركض بي والغزاة ورائي ولكنهم سبقوني إليها. كلما أتقدم في العمر أعرف أن حياتي ورائي فأبكي عليها. ويصل الشاعر إلى أقصى العدم أو اليأس والعبث، بشعرية سوريالية في قصيدة “حرب الهواء”، حيث يقول: “اقتتلنا على بئر ماء.. أنا والهواء. شفتُ وجهي على رقعة الماء حين دلوت بدلوي .. على شكل منخل أرز وشافت عطاش الخيول.. الهواء على شكل شرشف ماء. فلمن هذه البئر؟ قد نفد الماء منها وما خلص الاقتتال عليها كأن عدوان مقتتلان إلى أبد الآبدين. ..أنا والهواء” ربما يحيلك شعر يوسف أبولوز، إلى ذاك القلق الوجودي المغمس بالحزن والمرارة، الموشى بالألم أو التعب، الذي لا يكتفي بالأسئلة ليهجع الشك، أو يَكِنُّ اليقين، لعلها تكون السلامة، خشية من آت محمول على أكتاف الندامة. وإنما يبحث عن نجاة أو خلاص في القصيدة، طالما أن الشعر برية مشرعة لاحتمالات المعنى، ويحق للشاعر التجوال في فضاءاته، كما لا يحق لغيره، فَيُطمئنْ ذاته المنهوبة بمواربة، عبر آخر لا وجود له، في قصيدة “غابة الليمون”، حينما يختمها بقوله: باسمي لا تخف.. الاسم مكتوب على الماء وقد نفدت مياه الأرض.. هذا ما أخذت من الحياة المعنى مراوغ، مخاتل، يتمتع بقدرة على التفلت، يستعصي على الضبط. هكذا هي مجموعة أبولوز بدءاً من عنوانها “زوجة الملح”، المفارق للمعنى، الجارح بالمبنى، وصولاّ إلى قصائده كافة، المكتوبة بقلم العمر ومداد الروح. يتكئ أبولوز على الذاكرة أو الرؤى المجهضة، التي مضت مع ما مضى من اللحظات الغاربة، بل الأيام الهاربة، وربما العمر الموغل في غربته، من دون أن يُصرح بها أو يُلمِّحْ إليها ولو تلميحا، لأن العودة إليها ربما تجرح الواقع، وتزيد من مرارته، فتركها تلعب بمدارات الروح، تتراءى من بعيد، تداعب المخيلة، كما السراب للبدوي في يوم قائظ، لأن الإمساك بها قبض ريح، لا يغني ولا يسعف الروح المتهالكة، بل يزيد من شقائها ويدفع بها إلى مهاوي القلق من جديد. إن مجموعة “زوجة الملح” بمثابة مغناة داخلية، أقرب إلى المرثية منها إلى ما يمكن أن نسميها، الغنائية المرسلة عَفَوَ الخاطر، المتدفقة بتلقائية التوق والحنين، إلى زهوة العمر وطراوة السنين الغاربة. ولا تستبطن بالمطلق استعادة نشوة الاندفاعات الجريئة، أو النهل من نبع المسرات الفتية، لبعث جمرة الروح المتهالكة. بقد ما هي موغلة في النزيف ونكئ الجروح، والعبث بالقروح. ولا مكان فيها للشجن البهي أو الحنين لاسترجاع توهج الإشراقات الأولى، وألق ودفء مراتع الصبا. وإنما هي غنائية جارحة يَتَرَجّعُ في جنباتها صدى الغضب والعتب حيناً، والمرارة أو التعب أحياناً. غنائية مجدولة بمغالبة الروح الهائمة في فلوات القلق، تعزف نشيجها الخاص على أوتار ذاكرة متوقدة، بل مشتعلة بضرام يسابق عصف الزمن، وبقايا العمر الهارب من سطوة الأحلام الأولى والتطلعات البِكْرْ.
المصدر: دبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©