الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بين الـ«هنا» والـ«هناك»

بين الـ«هنا» والـ«هناك»
21 أكتوبر 2015 22:26
انطلقنا مع نظرية الانفجار الأعظم من لحظة مفترضة بدأ منها الكون، ولكن النظرية غير قادرة على الإطلالة عما يوجد وراء لحظة البدء هذه، بل هي لا تثبت عما إذا كانت هذه اللحظة هي البداية الفعلية لكل الكون، وإنما كل ما تقوله هو أن قدراتنا النظرية والتكنولوجية لا تسمح لنا بالذهاب أبعد من هذه اللحظة. الأمر يشبه مفهوم الأفق في الفينومينولوجية: أنت تنظر إلى الأفق لكنك تعرف أن ما تراه ليس هو نهاية ما هو موجود، إذ وراء الأفق المنظور هناك أفق آخر غير منظور بعد. نفس الفكرة يرددها علم الفلك بلغة أخرى وراء هذا الكون لا شك أن هناك كونا آخر. خاصة وأن الفضاء لا نهائي، وفي اللانهاية من الممكن أن يكرر الكون نفسه. هل نحن إذن مجرد جزء من كون لا نهائي يستحيل حتى على خيالنا الإحاطة به؟ بدايات النظرية تعود هذه النظرية في صيغتها المعاصرة إلى فيزيائي شاب قام بتقديم أطروحة دكتوراه جريئة سنة 1954 هو Hugh everett هيو إيفرت (1930 1982) وهي أن الكون الذي نعيشه ليس هو وحده الموجود بل هناك أكوان أخرى مجاورة له. لقد اعتمد في طرحه هذا على نظرية الكم التي تصف لنا الحالات غير المستقرة للمادة في المتناهي في الصغر. كانت نظرية تعدد الأكوان مجرد أطروحة جامعية جريئة تقدم بها هذا الطالب وبما أنها تحدت التقاليد المألوفة للفيزياء فقد أدى هذا إلى ازدراء نظريته. فيما بعد اتجه إيفرت إلى العمل في مجال البحث العلمي العسكري ورغم تحقيقه بعض النجاح إلا أنه أمضى بقية حياته يائسا يعاقر الخمر ويدخن بشراهة ثم مات صغيرا في السن 51 سنة. (1) قبل هيو إيفرت بقرون كان الفلكي والفيلسوف الإيطالي جيودارنو برنو من أوائل من قالوا بتعدد الأكوان وبضرورة وجود حيوات أخرى في كواكب غير الأرض، فكان مصيره كما هو معروف الحرق حيا. إذ لا يمكن للكون أن يكون إلا محدودا في نظر الكنيسة. وحده الله الذي يتمتع بصفة اللاتناهي. أما اليوم فيمكن اعتبارا ألان غوت Alan Guth 1947 إضافة إلى الروسي أندريه ليند Andrei Linde 1948 أحد أكبر المنظرين لفكرة الأكوان المتعددة، فقد طورا بمعزل عن بعضهما البعض النظرية التي تسمى اليوم بالتضخم الكوني التي تقول إن الكون منذ اللحظة الأولى للانفجار العظيم دخل في تضخم سريع، وهو بالنسبة إلى ليند ما زال يتضخم إلى يومنا هذا على شكل أكوان وليدة متفرعة عن بعضها البعض على شكل فقاعات. انفجار أم انفجارات؟ لقد توقفت نظرية الانفجار العظيم عندما يعرف بجدار ماكس بلانك وهو قيمة عددية لا نستطيع بعد أن نتجاوزها بحيث تنهار كل المعادلات الحسابية. ولكن ماذا يوجد خلف هذا الجدار؟ إن إحدى نتائج هذا الطرح هو أن الأمر لا يتعلق بانفجار واحد بل بعدة انفجارات، فالكون ولد وهو مازال يولد باستمرار إلى الآن. إذا صدقنا نظرية تعدد الأكوان فالزمان والمكان لم يبدآ مع الانفجار العظيم، بل إنهما كانا هنا قبل ذلك بكثير. هذا معناه أنه ليست هناك نهاية أو بداية واحدة للكون. إن الانفجار الأعظم كان وراء ولادة كوننا، ولكن ربما لم يكن هناك انفجار واحد بل انفجارات أدت ليس فقط إلى خلق كوننا بل أكوان أخرى كذلك. غير أن العلماء مع ذلك يختلفون فيما إذا كانت الأكوان الأخرى تستحق بالفعل أن نطلق عليها أكوانا، إذ من المرجح أن تكون ميتة وذلك لأن المادة فيها غير مستقرة. قد نعود هنا إلى فكرة لايبنتز: نحن نعيش في أحسن العوالم. بينما يرى آخرون أن الأكوان الأخرى قد تتضمن قوانين مغايرة للطبيعة تختلف عما ألفناه، وأن احتمال وجود ثوابت فيزيائية هو أمر وارد. آخرون يرون أن هذه العوالم موجودة إلا أنها تتضمن بعض الاختلافات مع عالمنا. ففي كوننا هذا مثلا تمكنت الطائرات من الاصطدام ببرجي التجارة في نيويورك، لكن في كون آخر كشف الأمر قبل ذلك وتم إلقاء القبض على الفاعلين. أو أنت في هذا العالم تشتغل صحفيا لكن في العالم الآخر ربما كنت مهندسا أو فلاحا وهكذا... في الأكوان المتعددة تتعدد احتمالات الوجود. نظرية الفقاعات نظرية تعدد الأكوان تتقاطع مع فيزياء الكم. طبقا لمعادلات شروندنغر فإن الإلكترون يمكن أن يتواجد في عدة أماكن في وقت واحد. بعض الفيزيائيين مثل ماكس تيغمارك Max Tegmark 1967 يعتقدون أن هذا الأمر لا يصدق فقط على العالم المتناهي في الصغر بل حتى على عالم المجرات. في نظر ميتشيو كاكو Michio Kaku 1947 فإن نظرية تعدد العوالم التي يسميها بنظرية العوالم الموازية تقوم على افتراض أن كوننا الذي نحيا فيه، ربما ولد كبرعم من كون آخر أقدم منه أو من أكوان أخرى لا تعد ولا تحصى. (2) وهو يشرح هذه النظرية باعتماد فكرة (الكوانتوم) مشبها إياها بفقاعات الماء. يقول: «على سبيل التشبيه، فكّر في غليان الماء. إن هذا يمثل ظاهرة محضة من ظواهر ميكانيكا الكم، فالفقاعات التي يبدو أنها تأتي من العدم، تتمدد فجأة وتملأ الماء. وبالمثل فإن اللاشيء أو العدم في هذه الصورة يبدأ في الغليان وتبدأ فقاعات صغيرة في التشكل، ثم تتمدد بسرعة. وبما أن كل فقاعة تمثل كونا كاملا، فإننا نستخدم تعبير الكون المتعدد لوصف هذا التجمع اللانهائي من الأكوان» (3) نحن إذن نعيش داخل فقاعة هي هذا الكون الفيزيائي الذي نراه ونحسه، لكن الكون نفسه يضم أكوانا أخرى مجاورة وموازية لنا. الكون هو محيط حي ولد وما زال يولد بحيث كل فقاعة تنطفئ إلا وتولد بجوارها فقاعة جديدة وهكذا دواليك. بين الممكن والمستحيل تتقاطع أيضا نظرية الأكوان المتعددة مع نظرية الأوتار، التي تقول إن هناك أبعادا أخرى يمكن أن تتخذها المادة غير الأبعاد الثلاثة المعروفة في عالمنا، وعليه فهذه الأكوان الأخرى المفترضة قد تكون موجودة في أبعاد أخرى غير مرئية بعد بالنسبة لنا. الأمر يشبه أغشية مجاورة لبعضها البعض، بمعنى أن الكون المرئي الذي نعيش فيه برمته ما هو إلا غشاء من بين أغشية أخرى لا مرئية بالنسبة لنا. هذه الأغشية تسبح بجانب بعضها وأحيانا يكون بينها تماس يؤدي إلى انفجار هائل، لذلك قد يكون الانفجار الأعظم ما هو إلا حدث وقع نتيجة هذا التماس مما أدى إلى توليد كم هائل من الطاقة والمادة أدت فيما بعد إلى تشكيل الكون كما نعرف حاليا. إن تعدد العوالم يتيح إذن إمكانات هائلة وهذا هو ما يجعل لغز قطة شروندنغر محلولا بسهولة فالقطة قد تكون ميتة هنا لكنها حية في عالم آخر. (4) رغم جمالية هذه النظرية إلا أنها تصطدم بجملة من الصعوبات أهمها صعوبة إثبات الوجود الفعلي لهذه الأكوان، لذلك يتحدث بول ديفز عنها بنوع من الشكية بسبب عدم قدرتنا على ملاحظتها. يقول: «نظرية تعدد الأكوان غير مقنعة لأنها لا يمكن البرهنة على صحتها أبدا... هناك شيء غير مقنع فلسفيا حول تلك الأكوان التي تمضي دون أن نلاحظها» (5). غير أن الرصد الفلكي المعاصر يعطينا مع ذلك بعض المؤشرات للتثبت من صحة هذه النظرية، فإذا كان الكون يضم أكوانا متعددة وليس كونا واحدا فقط، فإنه من شأن هذه الأكوان السابحة في الفضاء الكبير أن تتلامس يوما ما أو تتصادم مع بعضها البعض، وهذا من شأنه كذلك أن يترك أثره على نسبة الحرارة الموجودة في كوننا المرئي، أو أن يترك هذا الانفجار أثرا له كفجوة أو ما شابه ذلك، هذا هو ما تمت ملاحظته انطلاقا من رصد تجريبي قام به أحد الأقمار الاصطناعية الذي أرسلته وكالة الفضاء الأميركية، حيث أبان بوضوح أن الكون الذي نعيش فيه يتعرض لضغط جاذبية غريبة على حافته وهذه الجاذبية لا شك أنه يمارسها عليه كون آخر يوجد بجواره. أصبحت اليوم نظرية تعدد الأكوان ذائعة الصيت في الأوساط العلمية، بحيث نجد الكثير من العلماء يتبنونها ويدافعون عنها إضافة إلى هذا الأمر فإن الاهتمام بالأكوان المتعددة هو اهتمام بسر الوجود وبحقيقة الحياة، فبالرغم من أنه من المحتمل ألا نلتقي أبدا بهذه الأكوان الموازية إلا أن العناية بدراستها ما هو في العمق إلا محاولة للإجابة على السؤال الفلسفي القديم: لماذا هناك شيء وليس بالأحرى عدم؟ هذا السؤال الذي نضيف إليه سؤالا آخر وهو كيف سيحل العدم بالوجود، أو بلغة بسيطة كيف نشأ الكون وكيف سيفنى. المراجع 1 للمزيد من المعلومات حول حياة هيو إفيرت انظر المقال الذي كتبه بيتر برايان وهو صحفي علمي متخصص في حياة هذا الرجل بمجلة العلوم الأميركية http://www.oloommagazine.com/Articles/ArticleDetails.aspx؟ID=2352 Michio kako parallel worlds Ist ed by doubleday 2005 P 15 2 3 ميتشيو كاكو: رؤى مستقبلية كيف سيغير العلم حياتنا في القرن الواحد والعشرين. سلسلة عالم المعرفة العدد 270 ص 452 4 قطة شروندغر عبارة عن تجربة ذهنية يصف فيها قطة موجودة داخل صندوق مغلق مع أشعة قاتلة يحتمل انطلاقها وبالتالي لا نعرف بدقة هل ستموت هذه القطة أم أنها ستظل حية. انظر كتاب جون غريبين: البحث عن قطة شروندنغر ترجمة فتح الله الشيخ، نشر كلمة 2010 5 بول ديفز: التدبير الإلهي الأساس العلمي لعالم منطقي، ترجمة محمد الجورا، الطبعة الأولى 2009 دار الحصاد/ سوريا ص 213
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©