في معرض الكتاب في العاصمة الزاهية، أضاءت نجوم، وانفتحت نوافذ، ووشوشت أمواج، وجادت جياد، وغردت طيور، ورفرفت الكلمات بأجنحة الفرح، وثغور رسمت شذا الأزهار، وعيون شعشعت شغفاً.
في معرض الكتاب وسَّعت ركاب الأحلام خطواتها، وانبرت تخب في فيافي الزمان في ولع، وسارت قوافل العشق في وثبات الشغف تكتب للإنسان قصة الزمان الذي أينعت سنابله، وسطعت أقماره على أرض الخير، أرض الرمل المبجل، وماء التعب النجيب.
في يومه الأخير، بدا معرض الكتاب ضيفاً يشد رحاله ويلف لفيف زاده ومواله، ويجمع الصحائف والكتب لموعد قريب مع العاصمة، مع العشاق مع الذين يودعونه، وفي عيونهم تسبح الدمعات لتغسل أطراف الجفون بلمح الصبر، وتحيي هذا الضيف الذي حل كنسمة، وغادر كجناح بلبل ملأ المكان شدواً ثم أعلن التحليق في فناء الله الواسع البهي.
في اليوم الأخير شيء ما يحدث وهي عادة بشرية وسبر فطرة قديمة قدم الدهر، في هذا اليوم، وأنت تتابع الذين يشدون الرحال، ويحزمون الرباط بأيدٍ متعبة تشعر بأن شيئاً ما يحدث في هذا العالم عندما يعلن الكتاب إطفاء النور لينام العالم بعد حفل بهيج جلل الأرواح بالفرح ومنح القلوب وعياً بأهمية أن نكون في حضرة الكلمة؛ لأنها لمعة البرق في أحشاء الغيمة مؤذناً بحدوث المطر.
هكذا يشعر المتأمل للمشهد الدرامي في آخر أيام الاجتماع الكوني على أرض العالم عاصمتنا أبوظبي، في هذا اليوم أشياء تتغير وأحوال تتبدل ومشاعر تتحول وموسيقى داخلية تخفق بألحان الفراق وأجراس ترفع صداها ليسمع العالم كيف يكون للكلمة معنى عندما تكون الكلمة بأبعاد إنسانية لا حدود لها ولا تضاريس محددة ولا هوية لها غير الهوية الإنسانية محمولة على أكتاف رواية أو قصيدة أو ندوة أو محاضرة أو مصافحة عفوية بين كفين أو قبلتين.
في معرض الكتاب البداية غير النهاية، ففي البداية ميلاد عالم يتشكل على ضلع محبة، وفي النهاية إغلاق صفحة، ولعل صفحة أخرى تفتح نافذتها في القريب العاجل من الزمن، ولكن مهما بلغ الأمر من إحساس بمرارة إقلاع الطائرة إلى وجهات مختلفة، فإن الأمل معقود على العودة في فترة قادمة، وربما تكون سنة أو شهر المهم في الأمر أن ملح القلب هو وجود الكتاب بين اليدين وأمام العينين يمحو أثر النهايات الغائمة، هذا هو سبر الكتاب، وهذا سره، هذا خبره، هذا مطره، إنه يأتي ويغيب، ولكن العذوبة تبقى في عروق الشجر، وفي وجدان الطير، تبقى العذوبة في أحلام من عشقوا الكتاب، وحفظوا الود بين الضلوع، وفي نياط القلب سكنت كلمة اقرأ مثلما تهبط الغيمة على أديم الأرض فتلهمه العشب والنخب والصخب والحدب والسكب، وكل ما يخطر على بال السماوات والأرض، وكل ما يجيش في خاطر الطير والشجر.
في معرض الكتاب لا يحضر إلا الكتاب، وفي غيابه يبقى الظل صفحات تحمي رموش العين وتقبل المقل، في معرض الكتاب وجوه تملأ المكان حضوراً، وأخرى مضاءة بأحلام طفولتها والكتاب يصفق لعشاقه وكأنه يقول هذه لحظة لنلتقي، وقبل غروب شمس يوم سنكون خارج المدى خلف الأبواب، فتعالوا نرتشف من الكلمات أعذبها، ومن الصفحات أنصعها.