انتهى عرس الكتاب، ليبدأ شغف الزفاف بين العين والكلمة وبين الروح ورائحة أمنا الشجرة والتي منها جاء الكتاب وترعرع وتفرع وبرع في سلب الألباب وفتح الأبواب، لعالم يتشوق لمعرفة تمنح الوعي فسحة من التأمل، وفرصة لأخذ الأنفاس، بعيداً عن الحروب والكروب، انتهى العرس بأفراحه وأقداحه، وبدأ الليل يسف خوصة الوعي، والنهار يضفر جدائل الفكرة، والحياة تفتح أذرعاً لمد العشاق نغمات القصيدة، وهي تلون رموش الأحلام الزاهية.
بدأ الكتاب مستريحاً بين يدي ذي نخوة وصبوة ونبرة ودبرة وخيول جامحة ترتب مشاعر الكلمات وتمشي الهوينا على قارعة الوعي وعند ناصية الفرح وبهجة الوجدان لإنسان فتح عينيه على الوجود ولم يجد رفيقاً إلاه لم يجد طريقاً إلى الفرح سواه، هو ذلك المبلل بحبر وسبر، هو ذلك المعشوق الذي حطم كل التوقعات والتنظيرات والبهتان وطغيان الولع بما هو غير الكتاب، وقد كذب المنجمون عندما أرخوا لنهاية الكتاب وقالوا إنه زمنه قد ولى واندثر، وإن التكنولوجيا سوف تجلب الأذكى والأكثر نجاعة، كذب هؤلاء وانطفأت نجومهم البلاستيكية، وانبرى الكتاب يحمل سره في ارتباطه برائحة الشجرة وبريق أوراقها ولمسة طياتها الحنون والإحساس المشترك بين الإنسان والبذرة المجللة بالحنان ودفء الخواطر.
عندما تقرأ كتاباً، فإنك تحتضن الوجود، إنك تختزل التعب بأنفاس كأنها وشوشة الموجة في ضمير البحر، إنك تمضي في حقول وفصول تأخذك إلى حيث سهر ابن خلدون في دحض المنطق الصوري، وأخذ ابن رشد على عاتقه مسألة التوافق بين الأديان إذا أخذ الإنسان بفضائلها، وسار ابن سينا على نهج الأفذاذ الذين قرأوا النفس البشرية ليس من خلال فنجان فارغ، بل بالتحليل والتمحيص والفحص وسبر التاريخ للأفراد.
هؤلاء الرجال قرأوا الحياة بجزئياتها وتفاصيلها عبر كتاب محفوظ في ضمير الشجرة والتي أعطت كل شيء حتى من لحائها صنع الإنسان العود والبخور.
الآن وبعد أن شدت دور النشر الرحال وأغلق معرض الكتاب أبوابه بانتظار موعد جديد، يتلو السكون الآن، يحلو السمر وتلذ الجلسات عند طرف خفي لأجل الاستماع إلى ما يبوح به كتاب وما يفكر فيه كاتب هذه الرحلة الكهنوتية الجميلة، إنما هي رحلة العمر لعشاق الكلمة ومحبي الكلام المكتوب على صفحات تحمل ضجيجها الألذ في الطيات والثنايا وبين ضلوع الكلمات، وفي أحشاء المعاني وفي المضمون والمحتوى والفحوى.
هنا في مكان ما من هذا العالم يجلس أمرؤ هيأ الله له فرصة العناق مع أجمل وجه، وجه الورقة المنقوشة بالأفكار وأسرار ما تبوح به قريحة المبدعين، هنا في هذا المكان يعشق هذا العاشق قبلة من كلمة ولمسة من عبارة وابتسامة من حكاية وورطة جميلة في اقتناص الفكرة كي تكون بعد حين رواية أو قصة أو حتى بوح قلب يمضي تحت جفون اللغة أبجدية تفيض بما تجود به أنهار الدنيا وما يعرفه الخليج، خليج النهامين وأغنياتهم المعجونة بالملح ولوعات السفر الطويل.