السبت 18 مايو 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

محمد بن حليس الكتبي.. شاعر الأنين

محمد بن حليس الكتبي
13 نوفمبر 2021 00:50

إبراهيم الملا 

ونّيت ونّة من ذكر حدْ          لي دار لي م الياه ذنّان 
ونّة مريض طاح والتدّ          لي خرّ دمعه فوق لوجان 
على وليفٍ خِلّه أبعد            وهو على لا ماه شفقان
يا «بن خليفه» كم بيحدّ       عوقٍ كتمته بيّح وبان

يبوح الشاعر الكبير «محمد بن حليس الكتبي» في القصيدة أعلاه، بجانب درامي عميق في التراث الشعري النبطي، فهو يظهر ما كتمه في جوفه من لوعة واشتياق، ويأتي اعترافه لصاحبه «بن خليفه» متأخراً هنا، فالأمر لم يعد محتملاً، وعوارض البعد والنأي والافتقاد صارت فضّاحة، ولا مجال الآن لسترها والصبر عليها، لعلّ هذا البوح أو التصريح يخلق منفذاً لتمرير الوجع وتسريب الألم، خصوصاً وأن شاعرنا قد أورد في البيت الأول في القصيدة منطوقاً لفظيّاً صارخاً، متمثلاً هنا في الأنين «ونّيت ونّه»، ما يدلّ على ثقل المداراة والكتمان، ما جعل القول مختلطاً بحشرجة العذاب الداخليّ، الأقسى والأكثر مرارة من التأوّه الخارجي، فكل ما يخفى على العين من جرح أو سقم، يظلّ قابلاً للاستشراء والتمدد والتوسّع، بينما الجرح الظاهري يمكن كشف مسبباته ومن ثمّ علاجه ومداواته، ويأتي أنين الشاعر هنا مقروناً بذكرى قاهرة ومُلحّة، وذلك عندما بان له وجه المحبوب في مرايا الوجد المتراكم والشوق المتعاظم، ما دعاه لكشف السرّ، والإبانة عن أصل علّته، ومنبع ابتلائه، مدلّلاً في البيت الثاني من القصيدة على آثار الصبابة وشدّة الوله، وهي آثار لا تفترق ولا تختلف عن آثار المرض الحسّي والملموس، غير أن المريض بالهوى ثاوٍ ومتكالب على نفسه، لأن مصابه مشتبك بالروح لا بالجسد، فلا يسعفه دواء معروف أو ترياق مجرّب، بل إن مكمن الشفاء هو الالتقاء بالمحبوب، والتواصل معه وجهاً لوجه، فالرؤية الكاشفة هنا تبرئ العلّة، وتزيح الغمّة، وتفتح أمام العاشق مغاليق البؤس والانكفاء والعزلة.
يقول محمد بن حليس في هذا السياق: «ونّة مريض طاح والتدّ/ لي خرّ دمعه فوق لوجان»، مضيفاً: «على وليفٍ خِلّه أبعد/ وهو على لا ماه شفقان»، فمفردات مثل: طاح، والتدّ، خرّ دمعه، شفقان، هي مفردات مصاغة ومنحوتة على قياس الوجع، ولا يمكن سوى للشاعر المتمكّن من نسج الدلالات التفصيلية والأوصاف الدقيقة أن يستنطقها بهذا الجرس اللفظي المعبّر عن قسوة الحال، وصعوبة المآل، وخسارة المنال، مؤكّداً في البيتين الختامين من القصيدة على رغبته الحثيثة في الخروج من هذا المأزق العاطفي قبل أن يستفحل داء العشق، ويتحول إلى مرض عضال، يزيد من تعب قلبه، وانهدام جسده، وتعطّل حواسّه، فلا يصبح وقتها قادراً على التمييز بين الألم العضوي والألم المعنوي، ولن يستطيع حينها تجاوز الصبر أو الرهان على الأمل، فعندما تغلق كل الطرق، وتُسدّ كل الدروب، تتوه بوصلة الهوى، ويصبح العجز عنواناً، واليأس علامة، لذلك يقول الشاعر في نهاية هذا البوح المرّ على لسانه، والمحزن في بيانه:
«قلبي على الزينين ما بدّ/ لكن رسم القول ميشان
مفندٍ حدٍّ على حدّ/ ما كِدْ عضلني مثله إنسان»

راشد المزروعي: عرف بالحكمة والوقار
ولد الشاعر محمد بن راشد بن حليس الكتبي عام 1895م بمنطقة الرفيعة في الشارقة، وهو الشقيق الأكبر للشاعر المعروف عبدالله بن راشد بن حليس، الذي سبق أن تناولنا سيرته الإبداعية والحياتية سابقاً في هذه السلسلة، ويذكر الباحث راشد أحمد المزروعي أن «برج حليس» الأثري والذي ما زالت بقاياه موجودة في منطقة فلج المعلا بأم القيوين، هو برج سمّي باسم الوجيه حليس بن راشد المسعودي الكتبي، الجدّ الأكبر للشاعر محمد بن حليس، ولشقيقه راشد، وكان حليس زعيم طائفته من «المساعيد» وقومه من البدو الذين والوه وساندوه، وسكنوا في نفس منطقته، كما كان حليس رجلاً مهماً في القبيلة الأم «بني قتب»، وعرف بالحكمة والوقار، وكان سديد الرأي، وشديد الجانب، التفّ حوله الرجال، فأصبح المتحدّث باسمهم أمام القبائل الأخرى، كما عدّ أحد رجال البادية المعروفين، ومن الأشخاص النافذين لدى الشيخ راشد بن أحمد المعلّا الأوّل، حاكم إمارة أم القيوين الأسبق بين عامي 1913م - 1921م، فكان يلازمه في معظم الأحداث التي وقعت بأم القيوين خلال فترة حكمه، وقد عاش حليس قرب ذلك البرج - كما يشير المزروعي - فأكسبه اسمه مع مرور السنين، وعندما توفي دفنوه بجانبه تكريماً له، لذا صار يطلق عليه «برج حليس» والذي احتل في الزمن القديم موقعاً بارزاً وسط الغدران العذبة التي كانت تتجمع في الوادي أو البطحاء في أسفله، وهو البرج الذي كان قريباً من الفلج المحاذي له، ما جعل المكان موئلاً للناس والأهالي، يجتمعون قربه، ويتداولون شؤونهم آمنين مطمئنين تحت بنيانه الشامخ، وعمرانه المهيب.
وقد ترعرع شاعرنا - كما يوضح المزروعي - مع أهله وجماعته، متنقلين فيما بين مناطق الرفيعة، والنبييغ، وطوي راشد، والبحوث، وطوي حسين، والمرّة، ومهذّب، والحويّة، والصجعة، وطوي سيف، وتاهل، وغيرها من المناطق القريبة، ونظراً لطبيعة الحياة البدوية للمنطقة، فقد عاش أهليها بدواً رحّلاً يتنقلون من منطقة لأخرى طلباً للكلأ والمرعى، وفي الصيف يأتون إلى مناطق فلج المعلا والذيد، حيث يقضون الصيف في أطرافهما ويرتوون من مياههما العذبة المنسابة في الأفلاج الطبيعية الموجودة هناك، وقد شهد الشاعر محمد بن حليس الأحداث التي وقعت في المنطقة من غزوات ومعارك بين القبائل، وتمرّس شاعرنا مع شقيقه الأصغر «عبدالله» وذويه، في قضايا الصلح بين هذه القبائل المتنازعة، كما خبروا أساليب «الزبن» وحماية الخائفين والهاربين وغيرهم، فأصبحوا المقصد والملجأ الأمين، لذا ذاع صيتهم واشتهروا كثيراً عند الأهالي والشيوخ.
وقد فقد الشاعر زوجاته مبكراً، ورزق بابنتين، فبقي وحيداً معهما، وكان ذلك في منتصف الخمسينيات الماضية، ثم تزوج بامرأة تكبره قليلاً ليعيش معها وتربّي ابنتيه الصغيرتين، وكما يشير الباحث الدكتور راشد المزروعي، فإن عمل الشاعر محمد بن حليس قد تركّز على تربية الإبل وكدّها ونقل الحطب والثمام والأعلاف البريّة لبيعها في المدن، وكانت هذه حال جميع أبناء البادية في ذلك الزمان، وكان كبار السن والرواة يصفون الشاعر محمد بن حليس بأنه من خيرة رجال زمانه: كرماً وشجاعة وشهامة، بالإضافة إلى شاعريّته الفذّة، وفحولته في قول الشعر، وخاصة فن التغرودة.
ويذكر عنه السيد خادم بن عيد بن حليس، وهو ابن عمه وزوج إحدى كريماته، إنه برع في الشعر كثيراً، واشتهر بقول الفن المعروف في الشعر النبطي، وهو فن «التغاريد» وأبدع في نظمها، لتصبح تغاريد مشهورة في ذلك الزمان، كما تميّز شعره بالرصانة وقوة السبك والصياغة وسهولة القصد، والمعنى الواضح.
ويصف المزروعي شاعرنا بأنه من كبار شعراء التغاريد في الإمارات، ولا يقلّ مستوى تغاريده عن تغاريد الشعراء الذين اشتهروا بها مثل الهاملي، وبن حم، وابن خَمَسْ، والشيخ بطي بن سهيل المكتوم، وحميد بن سعيد بالهلّي، وقد أخذت الشكاوى والردود بين حميد بالهلّي وبين ابن حليس مساحة زمنية طويلة وشهدت سجالات شيقة ولافتة بينهما، لأنها سجالات توفرت على التحدّي الشعري، ولم تخل من الهجاء المصحوب بالدعابة الخفيفة، وما زال كبار السن يحفظون ويردّدون التغاريد المتبادلة بينهما، كما اشتهرت قصائده وروده على الشاعر «الحزيمي» من منطقة «الفقع» الذي عرف عنه معارضته الدائمة للشعراء ومجاراته لهم حين يسمع قصائدهم، وكان لهذه الردود والمساجلات جوها الشعبي الخاص القائم على الترقّب والتشويق وانتظار فحوى الردود وتقييمها لمعرفة الشاعر المتفوق على خصومه، وكيفية تحقيقه لهذا التفوق، وبالتالي بقيت أغلب هذه القصائد محفوظة في الذاكرة المحليّة، وشاهدة على الأحداث المحيطة بشعرائها وما تضمنته من حيثيات وتفاصيل مسليّة للرواة في سردهم لها ولخلفيّاتها ودوافعها.

كبار شعراء البادية 
عاصر محمد بن حليس الكثير من كبار شعراء البادية في زمانه، أمثال: محمد الخيّال، وعيسى بن شقّوي، وعويدين، وابن قنش المسعودي، وشبير، وابن زعيل، وعلي المحرّمي، وقمّاش العميمي، كما عاصر الكثير من شعراء الإمارات الآخرين في الساحل أمثال: سالم الجمري، وراشد الخضر وغيرهم.

مكانة مهمة للوصف في إرثه الإبداعي
عن الأغراض الشعرية التي ارتكزت عليها تجربة محمد بن حليس، يشير المزروعي إلى أن أغلب شعره ارتكز على التغاريد، وله أيضاً قصائد مرتبطة بالمشاكيات والردح، ويزخر نتاجه بالشعر الغزليّ، وخاصة في قصائده من نوع الردح، كما مثّل شعر الوصف مكاناً مهماً في إرثه الإبداعي، وخاصة وصف الإبل وأشكالها وسرعتها وألوانها وسلالاتها، حيث كان يملك مثل شقيقه الشاعر «راشد بن حليس» أفضل الإبل التي كان يشارك بها في سباقات الهجن، ويستطرد المزروعي قائلاً: «لم يتم تدوين أشعار محمد بن حليس، بسبب ظروف الأيام التي عاشها، ففقد معظمها ولم يبق منها إلاّ القليل في صدور بعض الرواة والحفظة».
توفي الشاعر محمد بن حليس - رحمه الله - عام 1965م عن عمر يناهز 70 عاماً، وقد قاومت قصائده المحو والنسيان بسبب قيمتها التراثية، وارتباطها بفن «التغرودة» العريق ضمن أساليب الشعر النبطي، كما أن سيرته الحياتية المتجليّة في الكثير من أشعاره نقلت لنا قيمته الاعتبارية بين الأهالي ووسط المناطق المحيطة به، الأمر الذي صنع شهرته بين الشعراء الآخرين، وساهم في التعريف بالحظوة الاجتماعية والشعرية التي نالها واستحقّها عن جدارة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©