بات واضحاً أن الحروب لم تعد مجرد حروب عسكرية تقليدية، خاصة في ظل الانتشار الهائل لمواقع وشبكات التواصل الاجتماعي، فالزخم الإعلامي الهائل الذي رأيناه، منذ أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن مخاوفه تجاه توسع حلف «الناتو» نحو روسيا، وردود الفعل الغربية، التي تضاعفت عشرات المرات، بعد الدخول الفعلي للقوات العسكرية، يؤكد أن الكثيرين، ما عادوا يميزون بين الحقيقة والخيال، بين الصواب والخطأ، وأصبحت الحرب، لعبة بيد الإعلام، يقلّبها كيفما يشاء.

البعض يسأل، كيف يتأثر الجيش الأوكراني، أو الجيش الروسي بمعركة عسكرية يفترض أنها قائمة على حساب مقدار القوة وحجم الجيش والتخطيط والمعدات والتقنيات وغيرها؟

ببساطة، يتأثر الجمهور المستهدف بما يتم نشره من معلومات، تنتقل العدوى بسرعة إلى أهالي وعائلات القيادات والجنود، ثم تتحول المسألة من مسألة عامة إلى مسألة شخصية، فإذا قرر الجندي، أن يقاتل، ووجد كل الأسباب التي تدعوه لذلك، وأجرى مكالمة هاتفية مع أمه أو شقيقته، وقالت له مثلاً إنها سمعت أن الروس يسيطرون على «كييف»، فبلا شك، أنه سيتأثر بقوة، وسينقل هذه المعلومة إلى زملائه في الوحدة والكتيبة، ثم تجد الجميع مهيئين للدخول في معركة محسومة، لكنها حسمت بصوت الإعلام، قبل كل شيء.

ذلك يبدو منطقياً، أن تلجأ معظم وسائل الإعلام الأميركية إلى شن حرب إعلامية قوية ضد روسيا، سواء الإعلام الأميركي الرسمي وغير الرسمي أو مواقع التواصل الاجتماعي، وقد رأينا كيف تحولت فيسبوك ويوتيوب وتويتر إلى مقاطعة الإعلام الرسمي الروسي، وعدم نشر معلومة واحدة مهما بلغت حول الحرب في أوكرانيا.

خلال تخطيط هذه المناورة الإعلامية، منذ اشتعال فتيلها، وجدنا أن الروس أداروها كما يديرون المناورات العسكرية أو الحروب الحقيقية، حيث عرفوا أنه ستتم مقاطعة إعلامهم الرسمي، فلجأوا مبكراً إلى حيل تقليدية ولكنها نافعة، بأن تتولى القوى الناعمة الإعلامية، شخصيات فنية وإعلامية، ليست جزءاً من الإعلام الرسمي، وعبر جميع مواقع التواصل المتوفرة، خصوصاً تطبيق الـ «واتس أب»، فكان أول فيديو تم نشره عامياً أن السيد بوتين، وبينما كان يُشعل بال العالم بأسره، في الحرب مع أوكرانيا، كان يزور مقهى ويتناول شرابه وطعامه، دون أن أدنى اهتمام، بما يجعل العالم كله يصرخ، حول ما يجري في أوكرانيا، وفيديو آخر للرئيس بوتين، يمارس الرياضة القاسية، بينما يعرض الفيديو نفسه الرئيس الأميركي بايدن وهو يسقط عن سلم طائرة، من منّا لم ير هذه الفيديوهات، المضحكة المبكية في آن؟

الاستهانة بالحروب الإعلامية، خلال المعارك الحقيقية، لا يعدّ ذكاء استراتيجياً، فقد رأينا كيف تم تصوير بعض المشاهد المبكرة، قُبيل الحرب، والأوكرانيون يحزمون حقائبهم ويغادرون، ما جعل كثيراً من سكان كييف، وعدد من المناطق الأوكرانية، يغادرون فعلاً، فور سماع دوي أول صافرة إنذار، حيث تم تهيئتهم إعلامياً، بشكل مدروس، بل تم برمجة الخوف من الحرب، في أعماق نفوسهم.

في المقابل، اهتم الإعلام الأوكراني بتصوير جميلات أوكرانيا في حالة استعداد لحمل السلاح، ولكن ذلك كان مسلياً لدى كثير من الشعوب، وليس من المستغرب أن ماكينة الإعلام الروسي، هي التي صنعت تلك المقاطع والصور، لإظهار ضعف الجيش الأوكراني، أو تقوية عزيمة الجيش الروسي، حسب وجهة نظرهم، بأن الحرب ستكون سهلة للغاية.

إلى جانب ذلك، نشرت مواقع، معظمها روسية، وأخرى متعاطفة مع الروس، مقاطع تبين أن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، كان ممثلاً تليفزيونياً، في مسلسل تليفزيوني حقيقي، بعنوان «خادم الشعب»، وبعض تلك المقاطع تذهب أنه صدّق نفسه، وبعضها يقول بأنه يدير الحرب كما هي في المسلسل من دون أدنى خبرة، وبغض النظر عما تقوله الماكينة الإعلامية الروسية المتفوقة، فقد نجحت عالمياً في تصوير الرئيس الأوكراني أنه يفتقر إلى الإمكانيات التي تؤهله لإدارة أوكرانيا وهذه الحرب.

الروس لديهم إمكانيات وخبرة أكبر في إدارة الحرب الإعلامية، الأوكرانيون أقل خبرة، أما إعلام الغرب، المتعاطف ظاهرياً مع أوكرانيا، فهو يبدو مضطرباً بصورة فظيعة، يستضيفون محللين استراتيجيين يتحدثون عن سيناريوهات غير معقولة، وفي النهاية يشير المحلل الاستراتيجي الخبير والمخضرم بما يفيد بأنه ربما أو قد يحدث كذا أو كذا.

ولكن في حقيقة الأمر، لا أحد يعلم ما في رأس السيد بوتين، وأعضاء فريقه الاستخباري والعسكري المقربين من سيناريوهات للتفاوض أو استمرار الحملة العسكرية في أوكرانيا، لحدود معينة، أو الاستمرار أكثر وبلوغ أبعد نقطة لحدود الناتو المتأهب بالأقوال والتصريحات والعقوبات منزوعة الدسم، التي حَسبَ الروس حسابها، منذ وقت طويل.

* لواء ركن طيار متقاعد