في تسعينيات القرن الماضي، وفي منتصفها تقريباً، بدأت الفضائيات العربية في الظهور والانتشار على نحو محدود في مرحلة أولى، حيث كانت الصحون اللاقطة على أسطح البيوت مؤشراً على تفوق طبقي واقتصادي معين. وبالطبع فقد أثّر هذا على اختيار السهرات الرمضانية، حيث كانت بمثابة مواسم بث تلفزيوني نوعي مختلف عن البث التقليدي حتى ذلك الوقت. وكان بيت «أبوفلان» مثلاً هو مقر السهرات، و«أبوفلان» نجم الحارة كلها في ضيافته «التي صارت عبئاً مادياً عليه»، مقابل بيت «أبوعلان» الذي لم يعد يزوره أحد رغم أطايب الطعام التي تعدها «أم علان» قياساً لما تقدمه «أم فلان»! 
في 
تلك الفترة التي ما زلتُ أتذكرها جيداً، كما أتذكر أن السقف في المنتج التلفزيوني ارتفع خلالها أكثر بكثير مما اعتدناه كمشاهدين على المحطات الأرضية. وكانت الفضائيات العربية الناشئة وقتَها تتنافس في الترفيه والقدرة على جذب المشاهدين، مع حذر شديد في تغيير مضمون نشرات الأخبار. 
كان التنافس في نقل الأفلام الأحدث، وفق ما هو متاح ومتيسّر، لكن التنافس الأشد كان بين القنوات اللبنانية الأكثر جرأة في برامج الترفيه والغناء والرقص. 

وهكذا تحوّل اللاقطُ من عمود معدني على أسطح البيوت، إلى صحن كبير مقعر لالتقاط البث الفضائي. وبدلاً من أن يلتقط المشاهدُ القنواتِ، صارت القنوات هي التي تتنافس على التقاط المشاهد الجالس مرتاحاً في بيته، وتلك ظاهرة في الالتقاط الجماعي وصلت ذروتَها في العصر الفضائي الثاني حيث صار المشاهد، مجرد متلقٍّ في حالة استرخاء، وهو ما غيّر من نمطيات السلوك الاجتماعي بما تتضمنه من قيّم اجتماعية وسهرات متبادلة، ونوعية الحوارات بين الأفراد والجماعات في العالم العربي. وبدلاً من مناقشة هموم العالم العربي وقضاياه المشتركة، صار النقاش يدور حول البرامج المفضلة وتوزيع أوقات بثها عبر رسائل نصية من هواتف العصر «الخلوي الأول» الذي لم يكن بعد قد تطور إلى العصر الديجتالي (الرقمي) والهواتف الذكية.
 
ومع بدايات انحسار الدهشة عن المشاهد - المتلقي في العصر الفضائي الثاني، حدثت وعلى غفلة وبسرعة الثورةُ المعلوماتيةُ في عالم الهواتف الخلوية، ليصبح الهاتف الذكي عنوانَ العصر الخلوي الثاني، ودخلت الفضائيات في منافسة عنيفة مع هذه التكنولوجيا الموازية لها، وصار في إمكان صاحب الهاتف أن ينتج برنامجَه الترفيهي الخاص به أحياناً، وظهرت صناعة ترفيه موازية بحجم راحة اليد، مما جعل عالم الصناعة التلفزيونية الديجيتالي الحديث يندمج مع العصر الخلوي الثاني ويحتويه عبر صناعة ترفيه جديدة من مكوناتها الهاتف الذكي ومشتقاته الجديدة من تطبيقات ذكية مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«انستغرام».. إلخ، وصارت أقل تغريدة لنجم في مجال من المجالات هي بمثابة عنوان ومحور لأحد البرامج على مدى ساعة كاملة على التلفزيون. وبالطبع فقد تغيرت السلوكيات المجتمعية للإنسان العربي من المحيط إلى الخليج، من دون أن يتغير المحتوى والمضمون كثيراً. 

*كاتب أردني مقيم في بلجيكا