أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زوبعة دبلوماسية وإعلامية بعد زيارته إلى الصين وحديثه عن الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية. إذ انتقده الجميع تقريبا بدعوى أن هذا الموقف ينم عن انعدام المسؤولية وأن من شأنه كسر وحدة الصف الضرورية للعالم الغربي، والحال أن الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية ليست مفهوما جديداً، بل مشروع فرنسي قديم يعود إلى بداية الجمهورية الخامسة. ومن المعلوم أنه في السياسة الخارجية الفرنسية، هناك الديغوليون-الميتيرانيون (أتباع المدرسة الديغولية-الميتيرانية، نسبة إلى الرئيسين شارل ديغول وفرانسوا ميتيران) من جهة، و«الأطلسيون» أو «المحافظون الجدد» من جهة أخرى. هذا هو الانقسام الرئيسي، وهو مختلف عن الانقسام بين اليمين واليسار. وكان إيمانويل ماكرون أشار إلى انتمائه إلى المدرسة الديغولية-الميتيرانية خلال حملته الانتخابية؛ إذ يولي أتباع هذه المدرسة الأولوية إلى استقلالية فرنسا بينما يولي الأطلسيون الأولوية للتضامن مع الولايات المتحدة. 
وبالطبع يعارض الأطلسيون أو «المحافظون الجدد» الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، ويرون أنه ينبغي الحفاظ على ارتباط وثيق مع الولايات المتحدة. فحينما اعترف ديغول بالصين في عام 1964، وحينما رفض ميتيران «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» – «حرب النجوم» – التي أتى بها رونالد ريغان، ظهرت هنا أيضا عاصفة من الانتقادات والاحتجاجات. ولكن في الوقت نفسه، كان ديغول وميتيران أكبر سند للولايات المتحدة في أسوء لحظات وأزمات الحرب الباردة، سواء تعلق الأمر بالأزمة الكوبية، أو جدار برلين، أو أزمة الصواريخ الأوروبية. فالسياسة الفرنسية منذ الجمهورية الخامسة كانت هي التحالف وليس التبعية. 
ويقول آخرون إنه إذا كان ماكرون ربما على حق، فإنه ليس الوقت المناسب لقول ذلك. ونظرا للحرب في أوكرانيا، هناك نوع من الخوف الذي يجعل الأوروبيين يعتقدون أن الولايات المتحدة وحدها تستطيع توفير الحماية لهم ضد التهديد العسكري الروسي. وغني عن البيان أنه حينما يكون المرء محمياً من قبل شخص ما فإنه لا ينتقد حاميه. إنها قاعدة كونية! 
ولكن هناك جملة لماكرون انتُقدت انتقاداً شديداً بشكل خاص: «هل لدينا مصلحة في تسريع الأمور بخصوص موضوع تايوان؟ كلا. إن أسوء شيء هو الاعتقاد بأننا – نحن الأوروبيين – ينبغي أن نكون تابعين بشأن هذا الموضوع وأن نتكيف مع الإيقاع الأميركي ومع رد فعل صيني مبالغ فيه». لكن الحقيقة أن الأميركيين هم الذين يوجدون في منافسة مع الصين لأنهم لا يرغبون في أن تتجاوزهم الصين، لأن هناك سباقاً بين بكين وواشنطن من أجل الهيمنة العالمية؛ وحقوق الإنسان تمثِّل حقيقة وذريعة في الوقت نفسه بالنسبة لواشنطن التي تفعل كل شيء من أجل إزعاج الصين بخصوص تايوان. والأكيد أن فرنسا ليست لديها مصلحة في التصعيد. 
والواقع أنه يمكن القول إن التهديد العسكري الروسي ليس كبيرا مثلما قد يتم تصويره بالنظر إلى الصعوبات التي يواجهها الجيش الروسي في أوكرانيا. كما يمكن القول إن الاستقلالية لا تتعارض مع التحالف، وإنما مع التبعية، وهذا أمر مختلف. غير أن هذا ليس هو رأي أغلبية المعلِّقين. 
والحال أن الموقف الواقعي حقا هو أنه لا يمكن تسليم مفاتيح أمننا لبلد أجنبي، وأنه ينبغي تهييء ظروف استقلاليتنا، وخاصة أننا رأينا خلال الفترة الأخيرة أنه لا يمكن الاعتماد على الولايات المتحدة بالكامل، من فترة ترامب إلى إخفاق كابول. كما أنه لا يمكننا المراهنة على التصويت في ولاية متأرجحة بفارق بضعة آلاف من الناخبين. 
وعليه، فإنه لا يمكن إنكار الحاجة إلى خلق استقلالية أوروبية. ولكن لماذا قول ذلك الآن؟ الواقع لأن هذه الاستقلالية في خطر تحديداً، فيجب الحفاظ على الشعلة متقدة لأن معظم البلدان الأوروبية تعتقد أن هذه الفكرة غير ناجحة، وخطيرة. وتعارضها بينما تؤيد التحالف. 
ولعل الشيء الذي أخطأ بشأنه ماكرون هو حينما قال إن المعركة الإيديولوجية قد كسبت. فالواقع بعيد كل البعد عن ذلك. ومما لا شك فيه أن أطروحات الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية هي الغالبة في البلاد، ولكن ليس في الخبرة الاستراتيجية، وليس في وسائل الإعلام المعتادة أكثر على النقاشات الداخلية في العالم الغربي، والتي تُعد أكثر ميلا وتأييدا للتحالف الأطلسي من أغلبية الفرنسيين. وفي الواقع، يمكن القول إن هناك انفصالاً في فرنسا بين الرأي العام المؤيد للاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية، والخبرة الاستراتيجية التي تُعد أكثر تأييدا للتحالف الأطلسي. وعلى الصعيد الأوروبي، تمثِّل فرنسا رأي الأقلية، وإن لم تكن معزولة تماما. ولهذا، ينبغي مواصلة الدفاع عن هذه الفكرة. 
ماكرون تحدث أيضا عن نفوذ الدولار والتشريعات الأميركية خارج حدود الولايات المتحدة. وهو واقع غير مقبول: فالأميركيون، حينما يعاقبوننا لأننا لم نمتثل للقوانين الأميركية – بما في ذلك، وخاصة خارج التراب الأميركي – لا يعتبروننا حلفاء، وإنما أشخاصا ينبغي عليهم الطاعة وحسب. 
وبالتالي، كلا، إن المعركة الإيديولوجية ما زالت بعيدة كل البعد عن الحسم. وهي متواصلة حاليا، وينبغي المشاركة فيها بقوة وبفعالية!
*مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس