من حق إلييتش راميريز سانشيز أن يعترض، من سجنه الفرنسي، على الشريط السينمائي الذي حمل اسمه الأشهر: “كارلوس”. فالإرهابي الجنتلمان، الذي شغل أجهزة المخابرات العالمية خلال حقبتي السبعينات والثمانينات اشتكى من تزوير طاول الأحداث وتشويه ألحق بالشخصيات. ولم يرد المخرج أوليفييه آسايس التهم التي وجهت إلى فيلمه، ولكنه انشغل بتوضيحات “تقنية” تتعلق بالتعديل الجوهري الذي حوّل شريطه من مسلسل تلفزيوني يتجاوز الساعات السبع، إلى فيلم سينمائي جال على مهرجانات العالم السينمائية انطلاقا من مهرجان (كان) في دورته الماضية وصولا إلى مهرجان أبوظبي.. ينقل “كارلوس” مكوّنا من مكونات العمل الكفاحي لعديد من الشعوب المستعمَرة في القرن الماضي، هو ما أطلق عليه تسمية “العنف الثوري”. وبغض النظر عن الكيفية التي قدم بها الفيلم هذا العنف، لكنه يستحق مراجعة لمنطلقاته ومآلاته. الملاحظة الأولى هي أن هذا النوع من العنف، هو أوروبي المولد، ومديني النشأة، وعالمي الاتجاه. فالحركات الاعتراضية الشبابية الأوروبية، كانت رجع الصدى لحركات الكفاح المسلح الجارية آنذاك في أميركا اللاتينية، وآسيا وبعض مناطق أفريقيا. وحينما تنطلق مظاهراتها في المدن الأوروبية الكبرى، كانت تتصدرها صور تشي غيفارا الرمز الأبرز للمقاتلين الثوريين حول العالم. وعندما جنحت حركات الشباب نحو العنف وجدت أن القتال الذي يمارسه الرفاق في الأدغال لا يمكن استنساخه في شوارع باريس وروما وفرانكفورت. لابد من ابتداع أسلوب ملائم. وهذا ما فعلته بالضبط جماعات مثل “منظمة بادر ـ ماينهوف” الألمانية، والألوية الحمراء الإيطالية، ومنظمة العمل المباشر الفرنسية، ومنظمة الباسك الانفصالية في أسبانيا، والجيش الجمهوري الإيرلندي السري، والجيش الأحمر الياباني. راحت تلك الجماعات الصغيرة تغتال رموزا مالية وصناعية وسياسية في “جبهة الإمبرياليين”، ثم تطور الأمر إلى عمليات اختطاف مثيرة وطلب للفدية، السياسية أو المالية. هذا النهج العنفي سيصبح تاليا مرجعية آيديولوجية مقفلة، لا تقرأ إلا نفسها. لم يدرس الثوريون قوة أعدائهم الحقيقية، ولم يستفيدوا من دروس الإخفاقات التي أصابت رفاقهم المقاتلين في جبهاتهم المنهارة. فمن يقرأ كتاب “يوميات بوليفيا” لتشي غيفارا، يجد أن جهد مجموعته انصب في أسابيعها الأخيرة على محاولة تأمين الغذاء في رحلة الفرار أمام “شراذم الديكتاتورية”. ومع ذلك فإن ثوريين من نمط كارلوس، سوف يعتبرون أن كل رصاصة يطلقونها من مسدس تالف (تماما كما حصل مع كارلوس في محاولة الإغتيال الأولى التي نفذها في لندن) هي “المسمار الأخير في نعش الإمبريالية”. لم يكتمل صنع هذا النعش بأيدي كارلوس ورفاقه. ربما ما حدث هو العكس. لكن في النتيجة، يبرز سؤال: ما هو حجم الضرر الذي ألحقه كارلوس وأمثاله بين أعدائهم في العالم؟ لعل إجابة معلوماتية تغني عن التحليل: فكارلوس يقضي، منذ سنوات، عقوبته في سجن فرنسي بسبب قتله شرطيين. لم يحاكم، ولم توجه إليه تهمة عن العمليات الأخرى التي نفذها مع مجموعته، ولم يتجاوز ضحاياها عدد أصابع اليد الواحدة. تلك إجابة، ولكنها غير مكتملة... إذ ستدخل لاحقا تحولات آيديولوجية ومنهجية على نمط “العنف الثوري”. سيشهد العالم نشوء مجموعات تتسبب في عملية واحدة من عملياتها الإنتحارية بقتل الآلاف.. سوف تؤذي أعدائها وتستثير وحوشهم، ضدها أولا، وضد ما تدعي الانتساب إليه. أما من طريق آخر؟ هناك الآن من يخط دروسا جديدة، بالأفكار التواقة والقلوب العامرة والأصوات الصادقة.. دروس بلا رصاص، ولا نعوش. عادل علي adelk58@hotmail.com