يبدو أننا في حاجة، دائما، إلى شيء نستند إليه في حياتنا، شيء قد يغدو كيانا أو عقيدة أو مبدأ أكبر منا، نتولى الاستناد إليه والاعتماد عليه ونلجأ إليه في لحظات الضعف أو الهزيمة أو اليأس، لنستمد منه القوة، والدافع على مقاومة الهزيمة، والأمل في مواصلة الحياة، وتحقيق ما نرجوه· هذا الكيان أو القوة يستوي أن تكون في داخلنا، أو خارجنا، المهم أن تكون حافزاً لنا على التقدم إلى الأمام، وتأكيد إنسانيتنا، وتشجيع قدرتنا على تقبل الاختلاف، واحترام المختلف مهما كان اختلافه معنا أو عنا، والأكثر أهمية أن يتشكل هذا الكيان أو القوة في منظومة، يمكن أن تكون منظومة دينية، أو اعتقادية، أو فكرية، المهم أن لا تكون هذه المنظومة، أيّا كانت، نسقاً مغلقاً جامداً من الأفكار والمعتقدات، وأن لا تتحول المبادئ أو القواعد التي تنطوي عليها إلى ثوابت جامدة، لا تقبل التحول أو الاتساع أو التغيير· باختصار المرونة فإنها تصبح نوعاً من أنواع الأصولية· والأصولية، في تقديري، ليست منظومة دينية فحسب، فهي تنطبق على الفكر بوجه عام، خصوصاً حين يتحول هذا الفكر، أيّا كانت صفاته ومسمياته، إلى معتقد جامد، أو نسق مغلق يستحق أن يوصف بالأصولية التي لا تفارقها صفات الجمود والثبات أولاً، وصفات التعصب والتطرف ثانياً، وعدم الاعتراف بالآخر أو المختلف والسعي إلى استئصالهما معنوياً ومادياً· ومن هذا المنظور، يمكن أن تكون هناك ماركسية أصولية، تجعل من تعاليمها نسقاً مغلقاً جامداً وتحيل أفكارها إلى مبادئ لا تقبل الاختلاف كأنها الحقيقة المطلقة، وتفرض نوعاً من القداسة على أفكارها بما يبرر إيمانها باحتكار الحقيقة، وما يوقع المختلف معها في الدرك الأدنى الذي يسمه بالخيانة لمجرد المخالفة· وهناك أصولية قومية، نموذجها الأبشع الأصولية البعثية التي أحدثت من الدمار ما سوف تبقى آثاره السلبية الدامية في ذاكرة العالم العربي لأجيال وأجيال· وكانت مظاهر هذه الأصولية المشتركة مع غيرها من الأصوليات في الحدِّية الوحشية، ما قامت به من استئصال مادي لخصومها، وذلك إلى الدرجة التي تكاثرت معها القبور الجماعية، وكان عدم احترامها لإنسانية الإنسان السبب في هجرة آلاف المثقفين العراقيين وهربهم إلى الخارج، وذلك في موازاة قمعها الوحشي لأي انتفاضة شعبية، مهما كانت· وكل أصولية من هذا النوع لابد أن تنتهي بمن يعتنقها إلى الدمار كالنازية والفاشية، وقبلهما الأصولية المسيحية التي تمثّلت في محاكم التفتيش التي كانت كارثة إنسانية بكل معنى الكلمة·