ظننت الدعوة التي وصلتني من دائرة الثقافة والإعلام في عجمان لحضور ندوة عنوانها “المجلات ذاكرة ثقافية: الواقع والآفاق”، هي دعوة لحضور مجلس عزاء. وبسبب تزامن الندوة مع فعاليات معرض الكتاب في أبوظبي، فقد اكتفيت بقراءة الفاتحة عن روح الغائب. حسنا فعلت الجهة الداعية في اختيار الموضوع، وإدراجه تحت عنوان الذاكرة، من ثم الواقع والآفاق. فالمجلات الثقافية، بالصيغة التي تعارفت عليها الأجيال التي ولدت مع ولادة المطبعة فما بعد، تبدو وكأنها تنتمي إلى فصيلة الديناصورات: نعرف أنها كانت عملاقة الحضور والكيان والتأثير، وما بقي منها مجرد أثر يحدث عنها. نعرف، أيضا، إن المجلات الثقافية ـ في عهدها الذهبي ـ أسّست مثقفين عمالقة ومشروعات ثقافية ذات سيادة. يحدثنا جيل الآباء، عن تلك المجلات التي كانت تصدرها القاهرة في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، ومنها نهلوا المعارف، وتابعوا المعارك الأدبية، واحتكوا بالثقافات الأجنبية، وتشبعت مسامهم بحبرها الذي لا ينجلي إلا بالاستحمام! ويتحدث جيل الأبناء، عن مجلة “شعر” مثلا، التي اختزنت في صفحاتها كل المزاج البيروتي في ستينيات القرن الماضي، المنفتح على ثقافات العالم كله، وتياراته الراسخة والمتجاوزة والمفارقة والمشاغبة.. وبهذا المزاج، فتحت “شعر” الأبواب أمام قصائد الحداثة وشعرائها، وفتحت الساحة الثقافية العربية على إيجابيات التناقض والصراع. “ويتذكر” كثيرون ـ انسجاما مع عنوان الندوة ـ أن أسماء لامعة في الكتابة الإبداعية العربية، انطلقت من صفحات المجلات. فقد نشر نجيب محفوظ رواياته مسلسلة، وفعل غيره مثله. وقدّم الطيب صالح عمله الأشهر “موسم الهجرة إلى الشمال”إلى القراء فوق صفحات مجلة “حوار” التي أسسها وحرّرها توفيق صايغ. ما سبق يأتي في سياق الذاكرة، أما سياق واقع وآفاق المجلات الثقافية، فينبني عليه موضوعان في غاية الخطورة، صاغهما الشاعر المغربي محمد بنيس في إحدى جلسات الندوة في سؤالين “كبيرين ومحيرين” بحسب تعبيره: هل يعني تراجع عهد المجلة الورقية في العالم العربي تراجع المشروع الثقافي؟ وإلى أي حد يمكن اعتبار المشروع الثقافي فاقدا لكل دلالة في زمننا؟ يطرح هذان السؤالان المشكلة في جوهرها. فالمجلة الثقافية التي انتهى دورها، هي التي كانت مصدرا إنتاجيا في المشروع الثقافي. وضمور هذا المصدر، أو انمحائه لا يفترض أن يشكل سببا أو حتى نتيجة لتراجع المشروع الثقافي نفسه. تلك مسألة لها علاقة ببنية المشروع الثقافي، وليس بمنابره. المشروع الثقافي العربي، سواء كان مترهلا أم منتعشا ـ في هذه اللحظة ـ انخرط في مسارب جديدة للتعبير عن نفسه وعن منجزه الإبداعي. كان الكتاب أولها وسيظل سيّدها. لكن هناك مسربين آخرين، مستجدين، قاربت ندوة دائرة الثقافة والإعلام في عجمان أحدهما وأهملت الثاني. الأول هو المسرب الإلكتروني، مواقع ومدونات، وهو له رواجه، وله مشكلاته بقدر ما وفر من حلول أمام أجيال جديدة من الكتّاب والمثقفين. أما المسرب الثاني، المهمل في الندوة، فهو الملاحق الثقافية التي تصدرها الصحف اليومية، وهي ظاهرة انتشرت وعمّت. هذه الملاحق، هي وسيلة صحافية إعلامية وفرت للمشروع الثقافي منابر أسبوعية، أكثر انتشارا عوضته “جنّته” النخبوية المفقودة.. وللحديث هنا امتدادات أخرى.. عادل علي adelk58@hotmail.com