السطور الأخيرة من وثيقة الأزهر تنص على ثلاثة أمور نستكملها فيما يلي: «تاسعاً: بناء علاقات مصر بأشقائها العرب ومحيطها الإسلامي ودائرتها الإفريقية والعالمية، ومناصرة الحق الفلسطيني، والحفاظ على استقلال الإرادة المصرية، واسترجاع الدور القيادي التاريخي على أساس التعاون على الخير المشترك وتحقيق مصلحة الشعوب في إطار من الندية والاستقلال التام، ومتابعة المشاركة في الجهد الإنساني النبيل لتقدم البشرية، والحفاظ على البيئة وتحقيق السلام العادل بين الأمم. عاشراً: تأييد مشروع استقلال مؤسسة الأزهر، وعودة هيئة كبار العلماء واختصاصها بترشيح واختيار شيخ الأزهر. والعمل على تجديد مناهج التعليم الأزهري، ليسترد دوره الفكري الأصيل وتأثيره العالمي في مختلف الأنحاء. حادي عشر: اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصة التي يرجع إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة، مع عدم مصادرة حق الجميع في إبداء الرأي متى تحققت فيه الشروط العلمية اللازمة، وبشرط الالتزام بآداب الحوار، واحترام ما توافق عليه علماء الأمة». وقّع على هذا البيان فضيلة الإمام الأكبر مع ثمانية من كبار علماء الأزهر، واثنان وعشرين من طليعة المثقفين المصريين، واستجابت جميع الأحزاب والقوى السياسية للنداء الوارد فيه، فتوافدت على مشيخة الأزهر بمن فيهم زعماء الإخوان المسلمين وشيوخ السلفيين وكبار رجال الهيئات للتوقيع عليه وإعلان الالتزام به، وقرر مجلس الوزراء في ذلك الحين اعتباره وثيقة أساسية للدولة المصرية، وبدا الأمر كما لو أن الثقافة المصرية إبان الثورة قد عثرت على طوق نجاة التوافق بين التيارات الدينية والمدنية في إدارة البلاد في المستقبل، وانصرفت المجموعة إلى إعداد ثلاث وثائق أخرى تتصل بحق الشعوب العربية في التطلع إلى التحول الديموقراطي دون أن يكون الإسلام عائقاً لذلك، وبمنظومة الحريات الأساسية بالتفصيل الوافي، ووثيقة لم يقدر لها الصدور كانت بشأن حقوق المرأة، لأن التطورات السياسية كانت قد أسفرت عن فوز جناح تيار الإسلام السياسي من إخوان وسلفيين بالانتخابات البرلمانية ومن بعدها الظفر برئاسة الدولة، فأخذ المنتمون لهذه التيارات يتنازلون تدريجياً عن نبرتهم المعتدلة التوافقية ويكشرون عن أنيابهم الأصولية، ويمارسون الضغط على اجتماعات المثقفين والعلماء كي يفرضوا رؤيتهم الأحادية. كشرت الثقافة الأصولية الأحادية عن أنيابها، واختفت نبرات الاعتراف بحق الجميع في رسم معالم المستقبل. عندئذ تبين أن هذا الإجماع الذي أحيطت به الوثيقة كان خادعاً ريثما يتمكن أنصار الإسلام السياسي من فرض سطوتهم وتجلى ذلك في الدستور الذي فرضوه، وهو أمر لا يقتصر على الاستيلاء الأبدي على السلطة، بل يؤدي في جوهره إلى اختزال الزخم الثقافي للعلوم والفنون والآداب والتجربة الحضارية بأكملها في عنصر واحد هو الفهم المحدود القاصر للدين الإسلامي.