وجد مفكرون ومنظّرون مادة خصبة جديدة لكتاباتهم. فها هم باتوا يستقونها مباشرة من شوارع تونس وميدان التحرير المصري. خلاصة ما يدبجونه هو أن ما جرى في هذين البلدين العربيين، قد هزم الايديولوجيا أمام التكنولوجيا. وصف أحدهم “ثورة 25 يناير” بأنها “أول ثورة تكنولوجية في التاريخ” (كذا!). وما يمكن فهمه من هذا الوصف، هو أن ما شهدته الشوارع والميادين كان فصلا من “حروب النجوم” كما قدمتها لنا أفلام الخيال العلمي الهوليوودية. تحاول مثل هذه الكتابات، وهي تنفي التسييس والارتباط والارتهان، عن الثورة ومناضليها، أن تنفي عنها وعنهم ـ بقصد أو من غير قصد ـ الفعل الإنساني. ربما يقصد بعض الكتّاب أن من خرجوا إلى الشوارع العربية مطالبين بالتغيير وبالحرية وبالعدالة، كانوا ـ وهم كذلك بالفعل ـ بلا مرجعيات ايديولوجية، وبلا قيادات حزبية، وبالتالي فإن ناظمهم الوحيد هو ما وفرته لهم المدنية الحديثة من وسائط الاتصال التقنية الخارقة للحدود والسدود. يضمر ترويج هذه المقولة عسفا في التحليل والاستنتاج، يصوّر مظاهرات الشباب وجموع الناس وكأنها “ثورة روبوتات” تحركها أجهزة “ريموت كونترول” خفية أو وهمية. وهذا المنطق لو صح، من شأنه أن يجعل من المجتمعات المنتجة لأجيال التكنولوجيا عالية الدقة، كاليابان والولايات المتحدة مثلا، حاضنة طبيعية لـ”ثورة روبوتات” دائمة في شوارعها التي لا تنعدم فيها ذرائع للمطالبين بالتغيير والعدالة. يكاد بعض المتحمسين للمنحى التكنولوجي في التفسير، ينحرفون في النقاش إلى نوع من الإرهاب الفكري، فـ”يؤدلجون” المسألة من حيث لا يدرون! والواقع إن مثل هذا النقاش ليس جديدا على الساحة الفكرية العربية. ويمكن القول، بلا تحفظ، أنه سبق حركة الشارع في تونس ومصر بخمسة عقود كاملة. أي حينما كان الصراع بين أجنحة “الثوريين” العرب يدور على متن النظريات وفوق صفحات الكتب. فابتداء من منتصف القرن الماضي، أدخل الماركسيون مقولتهم الجديدة تماما على الفكر العربي، عن “جدل المادة” وقوانين “الديالكتيك”. أو بعبارة أوضح تلك الفلسفة التي تعتبر ان الفكر هو نتاج المادة وان المادة ليست نتاج الفكر، ففكر الإنسان نتاج مادي من عقله وليس الإنسان من نتاج الفكر. وهي الأطروحة التي دمج فيها كارل ماركس فلسفة هيجل وفلسفة فيورباخ. بطبيعة الحال استفزت هذه الفلسفة كثيرين. فعارضها الفلاسفة المثاليون في أوروبا دون أن يستطيعوا تقويضها. ورماها المفكرون المسلمون بوصمة الدنس الفكري دون أن يحاولوا تفكيكها. وهو ما سيفعله لاحقا، وبعمق نادر، المفكر المصري الدكتور عصمت سيف الدولة (20 أغسطس 1923 ـ 30 مارس 1996) بأطروحته المعروفة بـ”جدل الإنسان”. وملخصها هو الإجابة عن السؤال: هل الواقع كظاهرة قابل للتغيير؟ والإجابة: نعم، إنّ الواقع قابل للتّغيير لأنّه منضبط في حركته من الماضي الى المستقبل بقوانين أو نواميس حتميّة، وبقدر ما نعرف وما نحترم حتميّة هذه القوانين أو هذه النّواميس نستطيع أن نغيّره. ولا يمكن أن نغيّره فعلا الى ما نريد الاّ إذا عملنا على تغيير شروط وفعاليّة هذه القوانين، وهو ما يفعله الإنسان بإرادته. ثنائية التكنولوجيا والايديولوجيا، المطروحة الآن، هي مثال تطبيقي للسجال الفلسفي الآنف، مع كثير من التفاصيل المستجدة. لا ينضوي المنتفضون تحت راية حزب محدد، ولا يضربون بسيف عقيدة معينة، لكنهم تحركوا بدافع وجدان وطني فيّاض.. والوجدان الوطني هو أساس أي ايديولوجيا، وهو المعيار الحاكم لاستخدام أدوات التكنولوجيا. عادل علي adelk58@hotmail.com