كل المنكوبين حضروا في ذكرى النكبة· امتلأت شاشات الفضائيات، بالندابين والنواحين، وطفرت الدموع من عيون العجائز وهم يتذكرون بيوتهم الأولى في قراهم الأولى التي لم تعد لهم، وأكد الشبان والشابات أنهم لن يفرطوا بمفاتيح البيوت التي ورثوها، وتحدث السياسيون عن مواقف الدول الكبرى متجاهلين ما يجري فوق ساحاتهم، وحلل الاستراتيجيون موازين القوى في الماضي والحاضر والمستقبل، وغنى مطربون بكائية جديدة، شبيهة بأوبريت ''الحلم العربي''، تجلد النفس قبل أن تدين العدو·· كل هؤلاء حضروا في ذكرى النكبة، ووحدهم فقط الشعراء والروائيون والمثقفون المبدعون غابوا· لم يرسلوا بطاقة اعتذار، ولم يوقعوا ـ كعادتهم ـ بيان احتجاج· لم يدينوا ولم يطبلوا ولم ''يزمروا''·· فقط اكتفوا بالغياب دونما إعلان، فبدا صمتهم مريبا، أكثر منه وقورا أو بليغا· يغيب الشعراء والمبدعون في ذكرى النكبة، لكي يعلنوا للمرة الأخيرة أنهم لم يعودوا هناك· قطعوا نسبهم ونسلهم، مع القضية التي ولدوا من رحمها وشبوا تحت أهدابها· فاضت الأرض المحتلة بالشعر قبل أن تغرق بالثورة· فارت بالكلمة قبل أن ترتج بالطلقة· وها هي تلك الأرض تشيح بوجهها عن الشعر والكلمة والثورة والطلقة· ومثلها يفعل شعراؤها ومبدعوها· لكأنما تواطؤ ما يحدث الآن، وهنا، بين الأرض وابنائها·· فتخرج هي جفافها، ويخرجون هم من جلودهم إلى حيث يتوهمون أرضهم الجديدة· قبل عقود، في الزمن الطازج للهزيمة والنكبة، زمن الحلم والأمل، أخرجت الأرض مكنونها شعرا ناجزا، وأدبا فاتنا· انعقدت في تلك الأرض المنكوبة، المحتلة، ظاهرتها الثقافية والإبداعية الدالة· عاش فوق تلك الأرض إميل حبيبي، وتوفيق زياد، ومعين بسيسو، وسميح القاسم· وبوهجها لمع غسان كنفاني بثنائية قلّ نظيرها بين البندقية والكلمة· ومنها جاء محمود درويش، محملا بأوراق الزيتون، ومخضبا برائحة الصعتر البري وقهوة الصباح، ومضيئا بفضة الفجر عند شواطئ حيفا· كان هؤلاء ـ وغيرهم ـ شعراء القضية وأصواتها، يتألقون فوق منابرها، وينافحون بنبضهم عن حقهم في الحياة والخبز والحب والشعر· لم ننتبه، في غمرة التحولات، إلى أن القضية تحولت إلى ''مرحلة'' تحضر شذرات في قصيدة هنا، أو نص هناك· ثم لم نتوقف كثيرا عندما راح أبناء تلك الأرض، تلك القضية، يعلنون براءتهم كل على طريقته، من ''تلك المرحلة'' ويتطلعون إلى منجز شعري، أو إبداعي مغاير، لا مكان فيه لأرض أو قضية· بدورها أصيبت الأرض بعقم تاريخي· لم تعد تخرّج إلا أبناء سلطة ومعارضين لهم· يحدث ذلك الآن في الضفة الغربية، ويحدث شبيه له في غزة· أما شعراء الأرض المحتلة، ضميرها ونبضها وصوتها، فإنهم يبحثون عن ''منجز مغاير''··· وهنا فقط، تكون النكبة حقيقية· adelk58@hotmail.com