المتأمل لبيوت الكتاب والمفكرين والمبدعين الذين رحلوا، وتم البقاء على بيوتهم وإعلانها للزيارة، تبهره جماليات المكان المرتبط حتماً بصاحب البيت الراحل. يترك منظمو البيت كل شيء على ما كان عليه قدر الإمكان، وأثناء التجوال في البيت، تطلع الأفئدة أكثر من الأعين على الوجود الملغي لمن كان يعيش هنا، يفكر ويبدع ويأكل ويشرب وينام ويتوعك ويواجه مصائر سعيدة وحزينة ككل البشر، لكن القيمة المتعدية لإنتاجه الإبداعي تضيف لأشيائه بعضاً من الأسطورة، وربما من التقديس بالمعنى الإنساني، هنا كان يمشي، ينام، هذه كتبه، هذه آلته، هذه غرفة الراحة، هذا المطبخ، لقد أصبح البيت بما فيه متحفاً، لكن دون المتحف العام لجمع أشياء ومقتنيات لها طابع موضوعي خاص أو متعدد. المتحف المقصور على حياة شخص واحد، وكون هذه الحياة عيشت هنا بالتحديد، يجعل من الزيارة هدفاً متخطياً الجمال الاعتيادي الذي من الممكن أن تطرحه لنا رواية أو ديوان شعر، نحن نتكلم هنا عن بداية الشعور بأنفاس القاطن السابق للبيت/ المتحف، نتكلم عن المحمول الإعجابي الذي يجعل من زائر معين يختار الحج إلى بيت هذا المبدع دون هذا، هناك متحفان إذن، متحف المُزَار ومتحف الزائر، متحف يتحرك في متحف راحل، حيث تأخذ العلاقة الإنسانية بين الاثنين مربطاً يحاول به الحي إحياء الميت عبر قراءة نفسية وتتبع روحي واندماج. ويتبع هذا النوع من الحج إلى الآخرين نوعاً من الشفاء ولو ليس من شيء، يتبعه أن لحظة التأمل الممكنة والمتحققة بفعل الزيارة قد تستطيع المساهمة في شرعنة قرارات جديدة، ينحصر أغلبها في تعلية الإدراك الجمالي للوجود، تعلية التفاصيل المرتبطة بالانشغالات الخاصة، وتعلية الكيفيات التي يتطلبها السعي لإنجاز حالات أكثر شفافية، ولا تكون التعلية هنا سوى طريقة إجرائية للتخلص من الشوائب الحاجزة لانطلاقات تزيد من الشوق، الشوق كفعل لا حد له. يندرج ذلك ضمن مفهوم الرحلة أياً كان نوعها، الرحلة هي القياس الزمني المنفتح الشكل والأداء لفعل الحياة، فالملعقة من الصحن إلى الفم هي رحلة، دخول الإسانسير والخروج منه رحلة، التفكير في شيء وإيقاف التفكير فيه، سواء وصلت إلى نتيجة أم لا رحلة، ما يعني أن الأمر مرتبط ببداية ونهاية، مع أهمية أن نعيش هذا الإدراك، هو يعيش نفسه بالضرورة وليس من الواجب دائماً الانتباه المستمر له، لكن متعة الانتباه لكل الرحلات التي نعيشها يومياً تجعلنا ذاك المتحف الذي نزوره، ونتطلع فيه على كيفية صوغ حياة جميلة، حياة منوطة بصراع طرفيها الكلاسيكيين، الخير والشر، والتدخل في عملية الصراع تلك لإنتاج تحيز جمالي، وللتعرف إلى أغاني كل طرف، ففي الوقت الذي يغني فيه الشر متخذاً قراراته السريعة للوصول لما يريد، إذ أن فاعليته تكمن في ذلك تحديداً، المفاجئة والإكباب السريع مراده مهما كانت النتائج، يكون الخير مشغولاً بفكرة النور والطريق إليه، حيث أغنية الخير متحف بلا نوافذ بلا أبواب ولا جدران، بينما أغنية الشر غرفة عمليات مغلقة. amzf@live.com