انتبه زميل دقيق الملاحظة إلى أن العدد الماضي من “الاتحاد الثقافي”، كان أشبه باحتفال تأبيني متعدد الأسماء والأصوات. فرض رحيل جوزيه ساراماجو المبدع البرتغالي نفسه في قراءة ضافية. وخضعت نظريات المفكر المغربي محمد عابد الجابري الراحل حديثا لمقاربة عميقة. ودخل صديقنا الدكتور حاتم الصكر إلى أعماق الشاعر اللبناني خليل حاوي المنتحر عشية الاجتياح الإسرائيلي في صيف 1982. واقتربت صفحات المسرح من عالم المبدع الإماراتي سالم الحتاوي الذي انطفأ في عزّ توهجه.
تكاد مثل هذه الملاحظة تعيد طرح المسألة الثقافية في الجوهر والمظهر: هل يكون الشأن الثقافي فاعلا طالما كانت الدماء مندفعة في الشرايين، أم يصبح أثره أبلغ بعد انقضاء خفقة الروح؟ لا يمتلك أحد إجابة صارمة عن مثل هذا السؤال، وإن كان بعضهم تأخذهم لعبة تسطيح الأفكار وفذلكاتها، فيعقدون معادلة قوامها ما يسمونه ثقافة الحياة وثقافة الموت، ويمجدون في الأولى ميزة التفاؤل والإيجابية والانفتاح ورغبة العيش الرغيد...
وكان أحدهم قد طرح المسألة قبل سنوات، في مطبوعته، في أولياتها التعريفية. فأطلق على الثقافة اسم الثقافة الحيّة، وروّج لهذا المفهوم بصيغة استقطابية إعلانية سرعان ما قضت بالسكتة الدماغية. فتلك التسمية تحمل في مضمونها عسفا على الثقافة ومنتجها، لم تسفر عنه أكثر الدعوات الإلغائية توحشا. فالحياة، مهما امتدت هي اختزال زمني للإنسان وفعله. والثقافة الحيّة، بحسب التسمية الاعتباطية، هي تغييب لتراث إنساني هائل ولإبداعات أجيال متلاحقة. ففي ظل تلك الثقافة، لا مكان مثلا للميثولوجيا الإغريقية، ولا للإرث الفلسفي الهلّيني، والعربي الإسلامي. ولا لملاحم الشعوب من الإلياذة إلى جلجامش. ولا للشعر الجاهلي والعباسي والأموي. الثقافة الحيّة، بالمفهوم الزمني، تعني انمحاء أثر تولستوي وهمنجواي ونجيب محفوظ، فهؤلاء موتى يتضاءل حضورهم أمام الشعر الذي يغنيه أبو الليف (هل تعرفونه؟) الممتلئ بالحياة!..
أما إذا كانت تسمية “الحيّة” تعني ـ افتراضا ـ الفاعلية فإنها تحيل مجددا إلى ذلك الجدل الذي لم ولن ينتهي حول أكثر التعريفات تعقيدا: المثقف الحر والمثقف الملتزم.. المنشّط الثقافي الترفيهي بحسب التسميات الأوروبية الحديثة المستمدة من عالم التلفزيون، أم المثقف العضوي الذي نحت مفهومه الماركسي الإيطالي أنطونيو غرامشي في صياغته لقاعدة إقصائية تدعو إلى “الهيمنة على الثقافة كوسيلة للإبقاء على الحكم في مجتمع رأسمالي “.
وبالعودة إلى الملاحظة الأولى، يمكن القول إن حضور المنتج الإبداعي لراحلين ليس دليلا على “موات” ثقافي، كما إن الطغيان الإعلامي لأسماء أولئك الذين ما يزالون يدبون فوق الأرض لا يؤكد بالضرورة أن الحياة تدب في عروقهم. فتجارب المبدعين تظل مفتوحة طالما هم على قيد الحياة، على الإضافة والحذف والمراجعة والابتكار والتطور والتدهور.. إلى أن تكتمل عندما يقضي الله أمرا كان مفعولا. فالموت هو بمعنى من المعاني اكتمال الحياة والتجارب. عندها تصبح التجارب في كلياتها موضوعا للقراءة والاستنباط والاستدلال مما كان على ما سيكون. ولطالما حاول مبدعون أن يستبقوا منطق الأمور، فلجأوا إلى تلك الحيلة المبررة، فأصدروا نتاجهم تحت عنوان “الأعمال غير الكاملة”. فأعمارهم لم تكتمل وكذلك أعمالهم.
يمارس الأحياء حضورهم بحيلة معقولة، أما الأموات فإن كل حيلتهم لكي يواصلوا حضورهم هو أثرهم الذي يدلّ على الحياة من لدن الموت.. كأن موتهم هو تأبين للحياة..

عادل علي adelk58@hotmail.com