دائما يبدو خيال المؤلف الروائي أعلى من الواقع، حتى ولو استمد عمله السردي من يوميات ماثلة. وبسبب من هذا الخيال، يمكن تصنيف المنجز الروائي تحت خانة الرواية. تطرأ مثل هذه الفكرة عندما تقرأ عملا روائيا دسّ فيه مؤلفه مشاهد يصعب تصديقها. كم مرة سألت نفسك وأنت تقرأ: معقول؟ هل هذا يحصل في الواقع؟ وكنت أحسب هذا الجنوح نوعا من العبث خصوصا في تلك المشاهد المجبولة بالقسوة. تبدو المبالغات في هذا النوع من الكتابة الوصفية محاولة للإدانة وليس للإقناع. إذ لا يمكن أن تكون القسوة منفلتة إلى تلك الحدود الوحشية التي تصورها بعض الروايات. حتى ماركيز دو ساد (2 يونيو 1740 ـ 2 ديسمبر 1814) الأرستقراطي الثوري الفرنسي، الذي تحرر في رواياته الفلسفية من كافة القوانين الأخلاقية، مستكشفا في أعماق النفس البشرية مواطن بهيمية، كان يغلّف كل انحرافاته النفسية والسلوكية بمبدأ المتعة الجنسية. تعذيب الآخرين من أجل تحقيق هذه المتعة. لكن عند نقطة معينة، أو في لحظة فيضان خاصة لابد لهذه المتعة أن تتوقف، وبالتالي لابد من وضع حد لتلك السادية، بحسب التسمية المنسوبة إلى المؤلف. وتعمر الذاكرة بالعديد من المشاهد الروائية التي جعلت من التعذيب المنفلت ديناميتها الوحيدة، ولعل أقساها مشهدان صادمان. أولهما كثّفته الروائية إيزابيل ألليندي في بضعة أسطر في ختام روايتها “إينيس.. حبيبة روحي”، والثاني امتد على أكثر من صفحتين في سياق رواية عبدالرحمن منيف “الآن... هنا”. في سجلها الروائي عن فتح تشيللي على أيدي الغزاة الإسبان في القرن الخامس عشر، كتبت ألليندي نهاية بيدرو دي بالديبا القائد الإسباني الذي نكّل طيلة عقدين بالسكان المحليين، وعندما تمكنوا منه بعدما تحول إلى خرقة “من الوحل والدم” ربطوه إلى شجرة “وراح محاربو المابوتشي الغاضبون يمرون واحدا بعد آخر حاملين أصداف محار مشحوذة، يقطعون بها لقيمات من جسده. أضرموا نارا، وانتزعوا بتلك الأصداف لحم فخذيه وذراعيه وساقيه، ثم شووا اللحم وأكلوه أمام عينيه (...) وحين رأى لاوتارو أن بالديبا آخذ بالموت، سكب ذهبا مصهورا في فمه، كي يتخم بالمعدن الذي طالما أحبه”. أما منيف فقد نقل تجربة عذاب صحراوية يبدو الوصف فيها مرعبا. فقد سيق السجناء إلى علب مصنوعة من “الزنك”. المكان يكفي للوقوف، وإذا أراد الإنسان أن يجلس على الأرض ويمد رجليه قليلا فإنه يستطيع إذا لم يكن طويلا. يصف الراوي بلسان السجين ارتفاع الحرارة داخل العلبة مع سطوع الشمس، حتى أصبحت أنصالا تتهاوى من كل الجهات وتنبع من كل ركن. شعر داخل هذا الفرن بالتخاذل، والذوبان والتلاشي. ويتابع منيف بتفصيل: “افترضت أن الجلوس يمكن أن يبعدني عن السقف الذي تنصب منه تلك الحمم. جمعت نفسي وهبطت إلى الأرض. مست يدي جدار العلبة فانكوت، سحبتها لا شعوريا واتكأت على الجدار الآخر، ونظرا للعرق الذي يزخني والذي كان يفيض من كل المسامات، فما أن اتكأت على ذلك الجدار حتى شعرت أن يدي تلتصق بالصفيح، وأشم رائحة احتراق اللحم (...) العرق يتساقط، وداخلي يغلي. بدأ الونين في الأذنين واليباسة في الحلق. شعرت أنني أمتلئ تعبا وأتهاوى”. هل كان ماركيز دو ساد متواضعا في مغامراته البربرية تلك؟ وهل تستطيع دراسات التحليل النفسي الدخول أعمق لسبر أغوار مثل هذه السادية؟ قبل الإجابة على هذين السؤالين لابد من قراءة رواية الكاتب السوري خالد خليفة “مديح الكراهية”... عادل علي adelk58@hotmail.com