“الصلح معاهدة بين ندين/ في شرف القلب لا تنتقص”؛ سطران جميلان وردا في قصيدة أمل دنقل «لا تصالح» التي لا أزال أحفظ العديد من مقاطعها إعجاباً وإيماناً بها. وقد كانت صداقتي الحميمة لأمل دنقل أقرب إلى معنى هذين السطرين ولذلك كنت أحرفهما قائلًا «الصداقة معاهدة بين ندين/ في شرف القلب لا تنتقص» فيضحك أمل ضحكته المحببة إلى نفسي، قائلاً: كسرت الوزن يا أستاذ النقد الأدبي، فأرد الضحك بضحك، قائلًا ليس المهم الوزن الآن، بل المعنى. والحق أنني لا أزال أضع هاتين الجملتين فى ذاكرتي، وأحفظهما في عقلي ووجداني، مؤكداً لنفسي ولغيري، في حالات كثيرة، المعنى النبيل والجليل لهذين السطرين؛ فالصداقة معاهدة وعهد وفاء وإخلاص، وصديقك من صدقك وليس من غشّك أو نافقك، كما أن الصداقة هي علاقة بين اثنين معزة كل من طرفيها هي نفسها في وعي الآخر وقلبه. قرأت قبل ذلك بيتي أبي تمام اللذين قالهما في صديقه، علي بن الجهم: إن يكد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري فى إخاء تالد أو يختلف نسب يؤلف بيننا أدب أقمـــناه مـقام الــوالد وأنا أحب هذين البيتين مثلما أحب جملتي أمل دنقل، ولكن جملتي أمل أقرب إلى وجداني، لا لأنه كان أحب الناس إلى قلبي، ولكن لإخلاصه ووفائه، وحرصه على أن تكون الصداقة بيننا مبرأة من كل هدف. وما أكثر ما أذكر إلحاحه علىّ بعدم الكتابة عنه، حتى لا تفقدني صداقتي له الحيدة والموضوعية، ولا أظن أن صداقتي له كانت تدفعني إلى مجاملته، إذ أذكر أنني ناقشت ديوانه «العهد الآتي» مع الشاعرة الرقيقة ملك عبد العزيز زوجة محمد مندور التي انطلقت في دنيا الشعر بعد وفاته، وكنت أقسى في نقد الديوان من ملك عبد العزيز التي صارحتني، بعد مناقشة الديوان قائلة، إنك تقسو على أمل حتى لا يقال إنك تجامله كصديق، ولم توقفني هذه الجملة عند حد أو تنبهني إلى خطئي، فقد عاودت الخطأ نفسه، مشتركاً مع صلاح عبد الصبور، وكنا نناقش ديوان «مقتل القمر» ولم يحضر أمل تسجيل الحلقة في البرنامج الثاني، حرصاً منه على أن يتيح لي وصلاح عبد الصبور الحرية الكاملة فى النقد. وأشهد أنني كنت أقسى نقداً من صلاح عبد الصبور الذي كان أميل إلى المجاملة. كنت أرى أن قصائد «مقتل القمر» هي قصائد أولية كتبها أمل فى شبابه الأول الذي لم يكن تخلص فيه من آثار الرومانسية، ولم يسألني أمل قط، عما قلت في البرنامج، فقد كان دائم الحرص على ألا أفهم أني مضطر إلى الكتابة عنه. والحق أن الصواب كان يجانبه في ذلك، فما أكثر النقاد الأكبر والأكثر تأثيراً مني، كتبوا عنه. الطريف أنه بعد أن توفى ظل ألمي على فقده يحول بيني والكتابة عنه، وظللت كذلك إلى أن مضت عشر سنوات على وفاته، وأسهم تعاقب الزمن في برء جرح الألم، فأخذت أكتب عنه وأكثر، كأني أريد تعويضه عن السكوت الطويل. ولا أزال أشعر أن في عنقي دينا لن أوفيه إلا بأن أكمل كتابي عنه وأرجو أن أفرغ منه هذا العام، فقد تعلمت منه أن الصداقة معاهدة بين ندين في شرف القلب لا تنتقص.