حين نظر فيلسوف التاريخ وخاتم المنظومات الكبرى هيجل من شرفته إلى نابليون بونابرت، وهو يتقدم الجيوش مكتسحاً ألمانيا، كما اكتسح أوروبا وغيرها، قال قولته المعروفه “رأيت فكرة تمتطي حصاناً”. رأى هيجل في الامبراطور الفرنسي، التجسيد الواقعي الأعلى لأفكاره حول روح التاريخ والدولة. رأى التجسيد في نابليون، مطلق التجسيد، فالمطلق ينزل من سماواته إلى التاريخ، أو يحل فيه كما يحل هذا الأخير في شخص نابليون، وهو يقود فيالقه المظفرة لمزيد من تجسيد صفاء الرؤية الهيجلية المبتهجة بتحققها على الأرض. مثل هذه الروئ المركزية الكبرى المتعالية، من الطبيعي والمنطقي كجزء من سياقها البنيوي، أن ترى في الأفكار والشعوب الأخرى أنها الأدنى أو الأقل أهمية إن لم تكن معدومتها. فالصين في نظر الفيلسوف الكبير، هي دولة لا بد أن تذكر بدولة قديمة، لكن لا ماضي لها... كل تلك الأفكار العظيمة المتحدرة من سلالة الفلسفات الصينية القديمة لا تستدعي حتى إشارة تقدير عابرة. وهي الأفكار التي ترحّلت عبر الأحقاب لتغذي (الديالكتيك الهيجلي) بتأملها العميق تأمل زُهاد ومصلحين، لكن في العمق طريقة النظر تلك إلى الحياة والوجود والتاريخ. فلاسفة إشكاليون ذوو طبيعة ثرية ومركبة. وكذلك على صعيد الأفكار الأخرى التي تعتبر تلك المنظومات المتعالية أنها غير مؤهلة للنظر الفلسفي. وفي السياق نفسه يندرج علم الآثار مثلاً (علم تاريخ القمامة) ودراسة فضلات الشعوب البدائية. على عكس ما تحقق لاحقاً من جهة مفكرين أنزلوا الفلسفة من عليائها الهيجلي إلى الحياة والهوامش كما أنزل هيجل المطلق من مجراته اللاهوتية إلى التاريخ وأبطاله ورموزه. نيتشه ربما هو أول أو أهم من هزَّ حد التكسير، عرش تلك الصروح الكبيرة وأذاقها مرارة الأسئلة، لينفتح الأفق واسعاً بمسالكه الصعبة والخطرة، لسلالة لاحقة يمكن القول إنها تحدرت من شجرة السلالة النيتشوّية و”نسقها” الجديد. هكذا تغيّرت طرق النظر الفلسفي لأوروبا والعالم، وانسحب هذا التصدع إلى ساحة الأدب والفن وكافة أشكال التعبير. وصار المفكر والأديب والفنان، ليست المواضيع الكبرى على أهميتها الأساسية، معين تعبيره ورؤاه، وإنما حتى الأشياء المنسية والمحتقرة والصغيرة معين تأمل وإبداع لا ينضب. وهذه الأشياء والحيوات المقذوفة بقسوة على سطح العالم وأسفله، يمكنها فتح العين الرائية لما خلفها من معادن ثمينة، من روح ونبض وأعماق. تلخص المحادثة التي جرت بين سارتر وريمون آرون جانباً من هذا التحول الفلسفي والأدبي. كان الأخير مختصاً في (هوسرل) الظاهراتي، حين أشار إلى كأس كوكتيل أمامه، وهما يجلسان بمقهى في ساحة (مومبارناس) في باريس. ها أنت ترى يا صديقي أنه يمكنك أن تتحدث عن هذه الكأس وتستخرج فلسفة. هكذا أهمية المرئي مهما كان صغره أو تفاهته، في ضوء المفاهيم المتعالية، في الفلسفة والفن التي وصلت إلى أقصاها في الهيمنة لينفتح فضاء آخر بحيزات مختلفة يغني ويثري ما تحقق عبر التاريخ والجغرافيات الروحية والمكانية.