تسببت بضع خادمات بحدوث أزمة دستورية، وكدن يطحن بالنظام الملكي. طلب رئيس الوزراء الجديد من الملكة، تعيين خادمات يسميهن في بلاطها بدلا من الخادمات المحسوبات على خصمه رئيس الوزراء السابق، لكنها رفضت، فاهتز البلاط والحكومة. لو صحت هذه الواقعة التي يرويها فيلم The Yo ng Victoria “فيكتوريا الشابة”، لأعطت صورة أخرى عن الصراعات والدسائس التي كانت تعصف بالأسر الملكية الأوروبية والتي كانت تجري في الصالونات والمخادع وتجد صداها في المطابخ والبدرومات. يروي فيلم المخرج جان مارك فالييه حكاية اعتلاء فيكتوريا عرش بريطانيا العظمى (1837 ـ 1901)، وهي بالكاد بلغت سن الثامنة عشرة. كانت طفلة خاضعة لتسلط والدتها وخدينها، لفرض الوصاية عليها بعد وفاة عمها الملك ويليام الرابع. لكن مقاومتها لهما أوقعتها تحت سيطرة السياسي المحنك اللورد ميلبورن، إلى أن أنقذ عرشها زوجها الأمير ألبرت، الذي مات مبكراً. ينتهي الفيلم هنا تقريبا. في مرحلة شباب الملكة: تتويجها وزواجها. كأنه درس في كتاب تاريخ مدرسي، لكنه يتميز بمشهدية سينمائية تكتفي بعناصرها المدهشة، ولا تقترب من الحقبة المسماة “العصر الفيكتوري”. كانت الآثام المتأتية عن الثورة الصناعية، تزيد من حدة الانقسامات الطبقية في المجتمعات الأوروبية، بعد سلسلة من الحروب الأهلية والقومية، دفع الفقراء أثمانها من دمائهم. وكانت الأرستقراطيات الملكية توغل في عزلتها عن الشعب، خلف طبقة من السياسيين المنتفعين وهذا ما دعا بنجامين ديزرائيلي، أشهر رؤساء وزراء تلك الفترة، إلى وصف إنجلترا ببلد الأمَّتين. انتبهت الملكة فيكتوريا إلى هذا الواقع، بحكم تمردها السابق على أوصيائها، وبفضل الرؤى الإصلاحية لزوجها الأمير ألبرت. فانعكست تلك الإنتباهة على مجالات الثقافة والفنون، وتقنين حقوق الطبقات الفقيرة، وتوفير إسكان لائق للعمال، وإنشاء قاعدة للخدمات العامة والبنى التحتية وإلزام الرأسماليين بالمساهمة فيها. ولعل أهم ما فعله العصر الفيكتوري أنه دفع الأدب إلى التحرر من رومانسيته وضيق أفقه في التحليل الاجتماعي. فسمة القهر والظلم، كانت تظهر في آداب القرون السابقة، باعتبارها معطى إنسانيا فرديا، وليست نتيجة لمنظومة اجتماعية، كما في “أحدب نوتردام” لفيكتور هيجو مثلا لكن مع أدباء القرن التاسع عشر الإنجليز، غاصت الكتابة في عمق الألم الإنساني ببعده الطبقي. فيصور تشارلز ديكنز في روايتي “أوليفر تويست” و”ديفيد كوبرفيلد” حياة الجحيم التي يعيشها الأطفال، كما الجانب المظلم للحياة في روايته “البيت الكئيب”، ومثله يفعل وليم ميكبيس ثاكاري في “دار الغرور”، ودخلت الأخوات إميلي وتشارلوت وآن برونتي إلى عوالم النفس المعذبة في “مرتفعات وذرنج” و”جين إير”. وفي الجانب الفكري هاجم توماس كارلايل الطمع والرياء في كتاب “سارتور ريسارتوس”، وبحث جون ستيوارت مل العلاقة بين المجتمع والفرد في مقالته المطولة عن الحرية الخ... بقدر من الملاحظة، يمكن القول إن نهوض العصر الفيكتوري بتوجهاته الإصلاحية، قد تزامن في أوروبا مع ظهور النزعات الجذرية في الفكر والاقتصاد والسياسة، والتي مثلتها الماركسية. وبقدر من المقارنة، يمكن القول إن الملكة فيكتوريا منحت العامل مسكنا، وأعطاه كارل ماركس آيديولوجية. ومنحت ملكة الإنجليز رعاياها نظاما راقيا للمواصلات. ومنح الفيلسوف الألماني “البروليتاريا” أحزابا ثورية خلخلت كل نظام.. ومع ذلك ظلت الدسائس تحاك هناك في صالونات القصور ومطابخها، وتصنع هنا في المخابئ والخلايا السرية.. عادل علي adelk58@hotmail.com