هل كان الرحالة البنغالي ميرزا إيتيزا مودين الذي زار أوروبا في نهاية القرن السابع عشر يتوهّم أن النساء الانجليزيات قد افتتنّ به أيّما افتتان حتى صارت الواحة منهن تستوقفه على قارعة الطريق وتتوسّله كي يقبّلها؟ إن أدب الرحلة يستمدّ فاعليته من غرائبيته. ثمة، في أدب الرحلة، عقد مضمرٌ بين منتج الخطاب ومتلقيه. على منتج الخطاب أن يوشّي كلامه بالغريب والفاتن. وعلى المتلقي أن يصدّق ما يقال له. وبذلك تحدث المشاركة الوجدانية وتكون المتعة على أشدّها. لذلك لا يمكن أن نشكّك في كلام مودين حين ذكر أن سكان لندن استفظعوه ودهشوا لمرآه، لكنهم سرعان ما استلطفوه. نقرأ: “وبعد أن مرّ شهران أو ثلاثة أشهر، ربطتني صداقة بالجميع، والخوف الذي كان ينتاب عامّة الناس مني اختفى. فصاروا يقتربون مني ويكلّمونني، وصارت السيدات في السوق يبتسمن لي قائلات: “تعال، يا عزيزي، قبّلني”. والناظر في رحلة مودين يدرك أنها تجسّد فعلا تلك اللحظة الجلل التي حلّ فيها الشرق في ديار الغرب وبين ظهرانيهم. كان اللقاء عاصفا. فلقد استقبل مودين في لندن بالريبة والخوف. كان حيثما حلّ يثير دهشة الناس وهلعهم. كتب ما يلي: “كلما حاولت الخروج، رافقتني الحشود، والناس في بيوتهم وفي الأسواق، صغارا وكبارا، يطلّون برؤوسهم من النوافذ ويحدّقون في وجهي في عجب، ظانين أنني مخلوقٌ غير عادي. كانوا يفرّون من الطوابق الأرضيّة إلى البيوت ويحتمون بالطابق الثاني أو الثالث، ويصرخون كمن أصابه مسّ: “انظر، انظر، رجل أسود يسير في الشوارع!” وكان الناس يهرعون من الطوابق العلوية إلى الأبواب ليشاهدوني وملؤهم الدهشة. حسبني الأطفال والفتيان شيطانا أسود، وسمّرهم الخوف على مسافة منّي”. أرجع مودين ردة فعل الناس تلك إلى مظهره فكتب: “حين وصلت لندن كنت أرتدي لباس جماه المميز لبلادي، وأضع عمامتي على رأسي وأتمنطق صاشا وأحمل خنجرا في حزامي. ثمّ خرجت على الناس على طريقة الرجل الهندوسي، فأخذ الجميع يحدقون في وجهي. وما إن فرغوا من التثبّت في ثوبي: العمامة، والشال، وأجزاء أخرى من زي بلدي، ظنوا أنه ثوب للرقص أو لأداء دور مسرحيّ. بذلت قصارى جهدي لإقناعهم بعكس ذلك، لكنهم ما صدقوني، وظلّ الجميع يلقون بنظراتهم إلى لباسي ومظهري. والغريب في الأمر أنني أنا الذي ذهبت للتمتّع بالمشاهدة صرت موضوع المشاهدة والاستمتاع...”. واللافت فعلا في رحلة مودين إلى أوروبا أنها تجسّد العلاقة بين شرق حامل قيما وشهامة، وغرب شجع يجمع إلى روح فاوست ولع الملك ميداس بالذهب. ففي حين كان مودين طيلة إقامته في أوروبا، وقد دامت شهرين وتسعة أشهر، لا يفكّر في الثروة أصلا ويحن إلى موطنه ولا يرتضي له بديلا لو أعطي كنوز سليمان، كان مستضيفوه من اللوردات الانجليز يحلمون بالهند مستعمرة تدرّ عليهم ذهبا وعسلا وخيرات أخرى.