كلما فكرت في تميز المبدعين، وظهور واحد منهم على غيره، وانفراده عنهم بالقيمة التي تجعل منه فرداً ومثالاً ونموذجاً لأجيال لاحقة بعده، أجد أن المبدع العظيم بحق هو الذي يجعل الإبداع بعده مختلفا عن الإبداع قبله، كأنه مفرق الفصول، أو النقطة الحاسمة التي يتغير عندها وبها كل شيء، فيصبح ما بعدها مختلفا عن ما قبلها، ولا يتحقق ذلك إلا في المبدعين الاستثنائيين الذين يصلون إلى ذرى لم يصل إليها غيرهم، ويحققون من الإنجاز ما يصبح مغويا لغيرهم باتباعه، والصوغ على مثاله والوصول إلى هذه المرتبة عسير جدا، له صفات ليس من الصعب اكتشافها والإشارة إليها هناك، أولا، الموهبة النادرة التي لا يجود بها الزمان إلا في المكان والتاريخ المؤهَّل لها، والهابطة إليه كالعلامة أو الوعد· وهناك، ثانيا، روح التمرد الدائم ليس على كل شروط الضرورة وكل ما في العالم من قبح ونقصان، وإنما التمرد الدائم على الذات، وعدم الرضا بما تمنح من عطاء، ووضع كل ناتج موضع المساءلة، وذلك في العملية الخلاقة التي يظل فيها الإبداع حيا ما لم يفقد قدرته على مساءلة نفسه ومساءلة العالم من حوله، ولو فقد المبدع هذه القدرة المتصلة على المساءلة التي هي نوع من التمرد الذاتي على النفس، أصبح مثل غيره، ولم يعد يتميز عن بقية مبدعي عصره· ولا أجد، حاليا، مثالا قريبا في ذهني مثل صلاح عبدالصبور بالقياس إلى معاصريه· لقد كان ديوانه الأول ''الناس في بلادي'' حدثا شعريا، فتح أفقا جديدا، مغايرا، للشعر والشعراء ولكنه لم يرض بذلك في ديوانه الثاني الذي أتى في صورة وتوجه مختلف عن الديوان الأول· ولذلك كان ديوان ''أقول لكم'' غير ديوان ''الناس في بلادي'' وكانت ''أحلام الفارس القديم'' غير حكميات ''أقول لكم''، وجاء كل ديوان لاحق بما يحقق إضافة كيفية، تؤكد أن جوهرة التمرد الفريدة لم تصدأ أو يغطيها التراب، وأفضى وعي صلاح المهوّس بالأسئلة إلى فتح آفاق من المسرح الشعري الذي تنوعت موضوعاته، وحمل علامات التأثر الخلاق بكل جديد في العالم· قارن مثلا بين بعض مسرحياته ومسرحيات صمويل بيكيت، كما أشرت في دراسة سابقة· ولم تتوقف روح التجريب والمغامرة والمساءلة في إبداع صلاح عبدالصبور الذي كان السأم والتكرار أعدى أعدائه في الوجود، فظل يبحر بعيدا عنهما وعن أشباههما، وراء الذي يأتي ولا يأتي، مؤمنا بأنه لا أحد يحتكر جوهر الشعر الذي هو نبع متاح لكل ظامئ·