واشنطن منشغلة هذه الأيام بقضيتين محليتين. تتعلق الأولى بالتحقيقات التي يجريها المستشار القانوني الخاص روبرت مولر حول علاقات إدارة ترامب مع روسيا قبل وبعد الانتخابات الرئاسية، وتتركز الثانية على الجهود التي يبذلها «الجمهوريون» في الكونجرس لإمرار مشروع القانون الشامل المتعلق بالضرائب، وسيصبّ في مصلحة كبار الأثرياء، ويزيد من عبء عجز الميزانية بأكثر من تريليون دولار خلال السنوات العشر المقبلة. وكانت تحقيقات «مولر» من أحدث الأخبار المزعجة بالنسبة للرئيس ترامب منذ اعتراف مستشار الأمن الوطني السابق «مايكل فلين» بذنبه في اليوم الأول من شهر ديسمبر بعد أن كذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي حول حقيقة اتصالاته مع الروس، وبات يتعاون الآن مع مولر أملاً بتساهل المحاكم معه، وأما الخبر الجيد بالنسبة لترامب فهو أن من المرجح أن يتم إمرار مشروع القانون المتعلق بالضرائب في الكونجرس قبل نهاية العام الجاري ليصبح قانوناً ساري المفعول. وتكمن وراء هذا الجدل المتعلق بالقضايا المحلية الكثير من المشاغل التي تهم مجتمع إدارة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، الذي يكثر من التعبير عن قلقه من التقهقر الكبير لهيبة ونفوذ أميركا في العالم، والتراجع الذي تشهده على مستوى علاقاتها الدولية، وفشل إدارة ترامب في صياغة سياسات ودبلوماسيات بناءة لمواجهة الأزمات الكبرى في آسيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية. ويقع اللوم الأكبر في كل هذه الإخفاقات على عاتق كل من ترامب ووزير خارجيته ريكس تيلرسون. ويمكن اعتبار تيلرسون مسؤولاً عن «تفريغ» وزارته من دورها السياسي وقبوله البقاء على رأس مؤسسة مهمة لا زالت معظم المناصب الحساسة فيها شاغرة. وفضل العديد من أصحاب الخبرات والمناصب في هذه الوزارة الاستقالة من مناصبهم والتخلي عن مواقعهم فيها، وأصبحت الروح المعنوية في أوساط ما تبقى من موظفيها منخفضة للغاية، ومما يزيد الأمور سوءاً أن تيلرسون وترامب يكثران من الاختلاف على قضايا أساسية متعددة، وهو ما يقوي الشائعات التي نسمعها كل يوم عن أن تيلرسون بصدد الاستقالة أو الاستبدال بشخص آخر في وقت قريب. ويشدد تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس على أن الحل الدبلوماسي لأزمة البرنامج النووي لكوريا الشمالية هو موضوع أساسي، لأن استخدام القوة في هذه الحالة يمكن أن يؤدي إلى كارثة لدول المنطقة والاقتصاد العالمي. وفي الشرق الأوسط، لا يزال دور تيلرسون هامشياً إلى أبعد الحدود بالمقارنة مع الدور الذي يؤديه صهر ترامب جاريد كوشنير الذي استأثر بمهمة العمل على إعادة استئناف المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية إلى جانب العديد من المهمات الحساسة الأخرى. وخلال أول ظهور له في «معهد بروكينجز» للبحوث في واشنطن يوم 3 ديسمبر الجاري، لعرض رؤيته للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، اكتفى كوشنير بذكر كلمات مقتضبة حول الأفكار الجديدة المطروحة لحل المشكلة. ورأى أنه لن يكون هناك سلام شامل بين إسرائيل والعرب ما لم يتم حل مشكلة الفلسطينيين. ولا شك أن هناك من لا يتفق معه على وجهة نظره هذه، فإذا أعلن الرئيس ترامب عن نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس نزولاً عند وعد سبق له أن قطعه، أو لو وافق على إعلان إسرائيل سيادتها على القدس كلها، فلن يترك بذلك أي فرصة للعودة إلى محادثات السلام، وسوف يؤدي ذلك إلى إثارة ردود أفعال غاضبة عنيفة ضد الولايات المتحدة وإسرائيل. فلماذا تلجأ إدارة ترامب لمثل هذا الشطط السياسي غير المقبول، وفي هذا الوقت الحساس والعصيب الذي تشهده المنطقة؟ لا شك أنه إجراء يمكن أن يصيب معظم الخبراء المتابعين للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط بالحيرة والذهول. ويمكن أن يعزل أميركا عن أصدقائها في المنطقة وعن حلفائها الأساسيين في أوروبا بمن فيهم ألمانيا التي تدعم إسرائيل بأكثر من بقية الدول الأوروبية. وتأتي أزمة القدس في وقت تعاني فيه أميركا من خلافات جوهرية مع أوروبا حول سياسة إيران، وخاصة بعد أن تخلت لصالح روسيا عن أي دور يمكن أن تلعبه في مستقبل سوريا، ويحظى تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط بالترحيب في روسيا وإيران والصين وربما في تركيا أيضاً، إلا أنه يخلق المشاكل المعقدة لدول عربية مهمة مثل دول الخليج والأردن. ولقد أظهر العاهل الأردني موقفاً صلباً أثناء محادثاته مع الرئيس ترامب، وحيث أكد له أن أي تغيُّر حول وضع القدس يجب أن يكون جزءاً من الحل الشامل للقضية الفلسطينية وليس بقرار منفرد من طرف الولايات المتحدة، وسوف يتعرض ترامب لاختبار جديد حول مدى قدرته على التحكم بمشاعره من خلال استعداده للإنصات إلى هذا الموقف الحكيم للملك الأردني، ولقدرته على ضبط النفس أثناء اتخاذه لقراراته في واحدة من أكثر القضايا الاستراتيجية أهمية وحساسية.