بقلب يملؤه الحزن والأسى، نعى المجتمع العلمي الدولي، العالم البريطاني السير «جون سلستون»، والذي وافته المنية يوم الثلاثاء الماضي، عن عمر يناهز الخامسة والسبعين. ويعتبر «سلستون» من رواد المشروع الدولي للجينوم البشري، والذي هدف إلى فك شفرة الجينات والمادة الوراثية للإنسان، والتعرف على مكوناتها من الأحماض الأمينية، حيث تم نشر المسودة الأولى منه عام 2001 في احتفالية أقيمت بحديقة البيت الأبيض، وبحضور الرئيس الأميركي بيل كلينتون، ورئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير. وبالإضافة إلى أن «سلستون» ورفقائه من العلماء البريطانيين ساهموا بحل شفرة ثلث المادة الوراثية، بينما ساهم علماء «معهد الصحة الوطني» في الولايات المتحدة في حل الثلثين الباقيين، فاز أيضاً «سلستون» بجائزة نوبل في الطب العام التالي 2002، عن أبحاثه واكتشافاته في كيفية تحكم الجينات في عملية انقسام الخلايا وموتها، وهي الاكتشافات التي مهدت الطريق للعديد من الاختراقات على صعيد فهم طبيعة الخلايا السرطانية، ولتأسيس العديد من الاستراتيجيات العلاجية، وتطوير أدوية وعقاقير طبية لعلاج الأمراض السرطانية. وببساطة، يُستخدم مصطلح الجينوم البشري، للتعبير عن جميع المعلومات الوراثية، أو مجمل التركيبة الجينية، الموجودة على 23 زوجا من الأجسام الصبغية أو الكروموسومات، داخل نواة الخلية، في شكل تسلسل محدد من قواعد الحمض النووي الأميني. بمعنى أنه بداخل نواة الخلية، يوجد 23 زوجا من الأجسام الصبغية، والمكونة بدورها من تسلسل محدد من جزيئات من الحمض النووي الأميني، تشكل في مجملها شفرة التركيبة الوراثية للشخص. وتتباين وتختلف التركيبة الوراثية بين أفراد الجنس البشري بعضهم بعضا، وإن كان درجة الاختلاف والتباين بين السبعة مليارات إنسان الذين يشكلون تعداد الجنس البشري حالياً، لا تزيد عن 0.1 بالمئة. ولكن بالنظر إلى أن عدد جزيئات الحمض النووي المكون للجينوم البشري، يبلغ 6 مليارات زوج قاعدي، يمكن أن ندرك بسهولة أن مجرد 0.1 من الاختلاف في ترتيب جزيئات الحمض النووي، يترجم إلى ملايين من الاختلافات في التركيبة الوراثية، تظهر في النهاية في الاختلافات الجسمانية أو العضوية، وفي الاختلافات النفسية أو الشخصية، والتي نلحظها بين شخص وآخر. وإن كان من أهم هذه الاختلافات، هو الفروقات في احتمالات الإصابة بالأمراض المختلفة، مثل الأمراض السرطانية، أو أمراض القلب والشرايين، أو حتى بعض الاضطرابات النفسية والأمراض العقلية. كما تؤدي هذه الاختلافات أحياناً إلى اختلاف في الاستجابة للأدوية والعقاقير الطبية، أو العلاج الكيماوي، أو غيرها من أساليب العلاج الطبي. وهو ما أدى إلى ظهور ما يعرف بالجينوم الشخصي، أو اختبار تحديد تسلسل الحمض الأميني لشخص معين، مثله في ذلك مثل تحليل الدم أو صورة الأشعة التي يخضع لها الكثيرون عند زيارتهم للطبيب أو المستشفى، بهدف معرفة مدى احتمالات إصابة هذا الشخص بالذات بمرض ما، أو طبيعة استجابة جسده لدواء أو عقار محدد. وهو ما يندرج تحت المجال الحديث نسبياً المعروف بالطب الشخصي، أو فكرة تفصيل أو شخصنة الرعاية الصحية، بما في ذلك الممارسات والاختيارات الطبية، تبعاً للميزات والصفات الشخصية المحددة لكل مريض. هذه الفكرة اصطدمت في بدايتها بصعوبة فك شفرة الجينوم البشري، وبالكلفة الباهظة. فعلى سبيل المثال، استغرق الانتهاء من أول (مسودة) للجينوم ثلاثة عشر عاماً، من 1990 إلى 2003، وبتكلفة فاقت 3 مليارات دولار، وإنْ كان بمرور السنوات تم تخطي هذا العائق لحد كبير. فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة أميركية في عام 2104، عن تمكنها من تطوير أجهزة يمكنها أن تقوم بفك شفرة الجينوم، في بضع ساعات، وبتكلفة تصل إلى ألف دولار للمرة. وإن كان ثمن الجهاز الواحد يصل إلى مليون دولار، ولابد من شراء عشرة أجهزة دفعة واحدة، بتكلفة إجمالية تبلغ عشرة ملايين دولارات، وهو رقم خارج إمكانيات العديد من المستشفيات، وربما نظم الرعاية الصحية بأكملها في الدول الفقيرة. والمفارقة أنه قبل أكثر من شهر بقليل من وفاة «سلستون»، نشرت مجموعة من العلماء في إحدى الدوريات العلمية المرموقة (Nature Biotechnology) نتائج دراسة تمكنوا خلالها من فك شفرة الجينوم، باستخدام جهاز محمول في حجم الهواتف الذكية، وهو ما يطرح احتمال أن يتم فك شفرة الجينوم في جميع المعامل الطبية عن قريب، ويبشر ببزوغ فجر الطب الشخصي.