من الصعب سرد قصة الجانب الأميركي من الحرب الباردة من دون مستشار الرئيس الأميركي جيمي كارتر للأمن القومي زبيغنيو بريجينسكي. فقد أثّر بريجينسكي على أجيال من صناع السياسات وغيّر الطريقة التي كانت تمارس بها الولايات المتحدة السياسة الخارجية. وجعلته رؤيته الاستراتيجية وكتاباته الأكاديمية وتوصياته السياسية للعديد من الرؤساء الأميركيين، من ليندون جونسون إلى باراك أوباما، واحداً من أعظم المفكرين الاستراتيجيين في تاريخ أميركا. وفي كتابه الجديد «زبيغنيو بريجينسكي.. استراتيجي أميركا الكبير»، يقدِّم المؤرخ الفرنسي جيستان فاييس أول كتاب مخصص بالكامل لسيرة بريجينسكي، المهاجر الذي أتم رحلة مذهلة من موطنه الأصلي بولندا إلى البيت الأبيض. ويكشف عن رجل ترك تأثيراً عميقاً على جل نقاشات السياسة الخارجية الأميركية منذ عقد الخمسينيات، من موقفه المتشدد تجاه الاتحاد السوفييتي إلى دعوته إلى عملية السلام في الشرق الأوسط ودعمه لشراكة عالمية بين الولايات المتحدة والصين. وربما لا يضاهي تأثيرَ بريجينسكي على سياسة الولايات المتحدة الخارجية سوى هينري كيسنجر، الذي يصعب تصور سرد للجانب الأميركي من الحرب الباردة دون تعقب مساره المهني أيضاً. الرجلان وُلدا بفارق خمس سنوات، أحدهما في ألمانيا، والآخر في بولندا، لكنهما كليهما هيمنا على «جامعة الحرب الباردة» الأميركية خلال عقدي الخمسينيات والستينيات. كما أن كليهما أدارا السياسة الخارجية الأميركية، أحدهما لحساب رئيس جمهوري هو ريتشارد نيكسون، والآخر لحساب رئيس ديمقراطي هو جيمي كارتر. بريجينسكي، الذي توفي في مايو 2017 عن سن 89، كان معروفاً بصراحته القاسية. ففي البداية، كانت قدرته على أن يكون موضوعياً محل تشكيك دائم. وقبل سنوات من سطوع نجمه، بلغه أن أفريل هاريمان، الذي كان أحد أبرز السياسيين الأميركيين زمن ما بعد الحرب، قلّل من شأنه باعتباره بولندياً منحازاً، فكتب إليه محتجاً يقول إن أصوله لا ينبغي أن تكون سبباً لإقصائه من التعاطي مع العلاقات الأميركية السوفييتية، تماماً مثلما أن «خلفيتك كرأسمالي مليونير لا ينبغي أن تمنعك من التعامل مع الشيوعيين السوفييت بذكاء». وربما لم يكن مفاجئاً سعي شخصيات من النخبة السياسية في واشنطن إلى ثني كارتر عن اتخاذ بريجينسكي مستشاراً له في الأمن القومي. ومن هؤلاء سايرس فانسن، الذي أصبح لاحقاً وزير خارجية كارتر، والذي كان بريجينسكي يبزه في مرات عديدة. وعندما سُئل كارتر مرة لماذا كان يسمح لمستشاره بالنيل من فانسن، أجاب: «لأن زبيغ كان يرسل لي 10 أفكار في الليلة الواحدة، بينما كنت من المحظوظين إذا وصلتني فكرة واحدة في الشهر من وزارة الخارجية». وبعض أفكار بريجينسكي أثّرت في مجرى التاريخ، ومن بينها اتفاق كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل في 1977. وبعد ابتكاره مفهوم «الاشتباك السلمي»، سعى بريجينسكي وراء «الانفراج» مع السوفييت، وضغط في اتجاه احترام حقوق الإنسان وراء «الستار الحديدي». وفي هذا الصدد، يرى فاييس أن تركيز كارتر على حقوق الإنسان، ودعم بريجينسكي لمنشورات المعارضة المحظورة في الكتلة الشيوعية، لم ينل ما يستحقه من الإشادة لدوره في تسريع سقوط الاتحاد السوفييتي. وبالمثل، يستحق بريجينسكي مزيداً من الإشادة لدوره في إكمال تطبيع الولايات المتحدة مع الصين، حيث جرى إتمام الاتفاق على استئناف العلاقات الأميركية الصينية خلال مأدبة عشاء أقيمت على شرف الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ في منزل بريجينسكي الريفي في فرجينيا. غير أنه على الجانب السلبي، يُحمَّل بريجينسكي مسؤولية المساهمة في إنتاج التنظيمات الإسلامية المتطرفة؛ نظراً لدعمه «المجاهدين» عقب الغزو السوفييتي لأفغانستان عام 1979. لكن فاييس يقلل من أهمية الفكرة التي مفادها أن بريجينسكي كان مسؤولاً عن ظهور «القاعدة» بشكل ما. ولعل الأهم من ذلك هو أزمة الرهائن داخل السفارة الأميركية في طهران، والتي أسهمت في هزيمة كارتر أمام ريغان عام 1980. انتخابات لم يخرج منها أحد سالماً، بمن في ذلك بريجينسكي الذي كان متحمساً جداً لعملية الإنقاذ التي نحت منحى سيئاً في أبريل من تلك السنة. غير أنه بشكل عام، يمنح فاييس بريجينسكي نقاطاً عالية. ويمكن القول إنه باستثناء كيسنجر، لم يسبق لمستشار في الأمن القومي أن هيمن وأثّر على أجندة الرئيس الأميركي مثلما فعل بريجينسكي. فثقافته وذكاؤه كانا حادين على غرار لسانه. وعندما وظّف مادلين أولبرايت، التي تولت حقيبة وزارة الخارجية لاحقاً، حذّرها بعض أصدقائها من أنها ستشعر بأنها «صغيرة» عندما تعمل مع بريجينسكي. والحال أنه إلى اليوم، ما زالت أولبرايت – وهي لاجئة أخرى من أوروبا الوسطى – تثني على بريجينسكي وتذكر أفضاله عليها باعتباره معلماً عظيماً. ويشير فاييس إلى أن تحديد موقف متشدد مناوئ للاتحاد السوفييتي لم يكن هو أجندة بريجينسكي في البداية، لكنه تبنى المهمة مع مرور الوقت. كما قام بريجينسكي بتسخير الصين كحليف إبان الحرب الباردة، واجترح إطاراً لتأكيد القوة العسكرية الأميركية في الخليج العربي عقب الثورة الإيرانية في 1979. وأضحى تحت رئاسة كارتر مهندسَ سياسة احتواء جديدة استشرفت تصعيد الحرب الباردة التي شنتها إدارة ريغان في الثمانينيات. ويشير فاييس إلى أن نجاح بريجينسكي مرده إلى قدرته الكبيرة على التكيّف. فقد كان مفكراً استراتيجياً يقيّم المآزق والأزمات في سياق الحركة الواسعة للتاريخ، والذي كان ملماً به. كما أن تحمسه للتفكير التاريخي وتقديره لأهمية العوامل الاقتصادية والاجتماعية والتكنولوجية جعلا منه متنبئاً سياسياً ماهراً، حيث تنبأ بانهيار الشيوعية السوفييتية، يقول فاييس، كما حذّر من أن من غزو العراق سيطلق سلسلة من التداعيات الوخيمة. محمد وقيف الكتاب: زبيغنيو بريجينسكي.. استراتيجي أميركا الكبير المؤلف: جيستان فاييس الناشر: هارفرد يونيفرسيتي برِس تاريخ النشر: 2018