كيف تصل إلى أعلى مراحل الارتقاء والتطور النفسي؟ لعله التساؤل المحوري لكتاب «إنسان بعد التحديث»، والذي يحاول فيه مؤلفه، الرسام والطبيب وأخصائي علم النفس، الدكتور شريف عرفة، تقديم إجابة تمزج بين منهج البحث الأكاديمي المعمق، والأسلوب التفاعلي التشويقي القائم على التبسيط والشرح من خلال القصص والأمثلة والنماذج والرسوم التوضيحية. وعلى امتداد 420 صفحة تتوزعها تسعة فصول مع مقدمة وملاحق وخاتمة، يشرح المؤلف لقارئه مصفوفة عريضة من الموضوعات النفسية حول طبيعة الذات البشرية، وميكانيزمات عملها الشعورية والعاطفية والإدراكية والمعرفية.. فيتطرق لـ«مراحل التطور»، و«تطور السخرية»، و«تطور العلاقات الزوجية»، و«تطور الهوية»، «وتطور الحكمة»، و«تطور الذكاء العاطفي»، و«تطور المشاعر الإيجابية»، و«تطور التجربة الدينية»، و«تطور ما بعد الصدمة». وفي معرض تطرقه لمراحل تطور الإنسان، يتوقف المؤلف عند مستويات الوجود الإنساني، قائلاً إن البشرية مرت بتحولات كبيرة منذ أن كان الإنسان يعتمد على الصيد والتقاط الثمار، ويقطن الكهوف والغابات، ثم تطورت حياته ومعارفه حتى دخل عصر الذرة والسفر إلى القمر وإطلاق الأقمار الاصطناعية، ثم استنساخ الخلايا الحية وفك شفرة الجينوم البشري.. إلخ. لقد انعكست هذه التحولات والتطورات العلمية الهائلة على حياة الإنسان الذي أصبح يعيش حياته اليومية آمناً، في بيوت متقنة ومدن منظمة، لا يخاف الموت جوعاً أو عطشاً أو جراء افتراس الضواري، بل يشتري احتياجاته من السوق، ويجد الماء في الصنبور والطعام في الثلاجة، ويتوفر له حمام نظيف به الماء والأمان.. إلخ. وكما يلاحظ المؤلف فإن كل هذا جعل البشر يرتقون نفسياً، إذ ارتقت عقلياتهم وتطورت حضارتهم لتصبح أكثر تعقيداً وتشابكاً. لكن كل مرحلة من مراحل الحضارة تركت أثراً عميقاً لا يزال باقياً في نفوسنا، لدرجة أن مراحل التطور النفسي للإنسان الواحد من الطفولة إلى النضج، تشبه تطور الجنس البشري نفسه عبر العصور، وهي مراحل يلخصها المؤلف في أربع رئيسية: مرحلة إنسان الغاب، مرحلة إنسان الجماعة، مرحلة الإنسان المستقل، مرحلة الإنسان المستنير. وبالتوازي مع هذه المراحل أيضاً تطور الضحك ووسائله، ففي المجتمعات المتحضرة لم يعد من اللائق الضحك من شخص يعاني ويتعذب، أو من شخص به بلاهة وقلة إدراك. وهكذا تطور مفهوم السخرية كما تطور كل شيء في الحياة، بل اتضح أن للضحك والسخرية فوائد عديدة، بما في ذلك السخرية الوجودية والسخرية من الحياة. أما تطور العلاقة الزوجية فهو أيضاً مظهر لتطور الذات الفردية، كما يقول المؤلف، حيث تنشأ علاقة تكاملية يصل فيها الزوجان إلى درجة عالية من التفرد والاستقلالية، مع مزيد من الحميمية والاندماج والتعاطف المتبادل. أما قبل «تطور الهوية»، فقد كان المجتمع، كما يوضح الدكتور شريف، هو من يحدد هوية أشخاصه، ملقِّناً إياهم منذ البداية من هم، وما دورهم في الحياة، إذ يولد الواحد منهم ليعرف قبيلته وطبقته الاجتماعية التي لن يغادرها غالباً، لذا كان مفهوم الهوية مرادفاً لمفهوم الانتماء.. لكن مع تطور الحياة أصبح مفهوم الهوية أكثر اتساعاً، وتأتت للإنسان خيارات متعددة سمحت له بأن يكون مستقلاً في تحديد مصيره بنفسه. وفي مسألة «تطور الحكمة»، يعتقد المؤلف أن معظم الناس يفضلون الحياة بمنظومة فكرية جامدة تحكم رؤيتهم للعالم، لذلك فهم يتجنبون التعرض لهزات عنيفة تضطرهم لتغيير أفكارهم ومعتقداتهم، لكن على العكس من هؤلاء، هناك أشخاص لديهم رغبة حقيقية في فهم العالم وتحديث منظوماتهم الفكرية باستمرار. وهؤلاء هم «الحكماء». ولكي يكون المرء حكيماً، عليه أن يتصف بأربع صفات عقلية: المعرفة (أي المعلومات، وهي المادة الخام للفهم)، تحمل الغموض (أي الإقرار بأن المعطيات قد تكون غير كافية لإصدار حكم)، السياق الذي يكسب المعلومات والأحكام دلالتها الشاملة والحقيقية، وأخيراً المنظور أو زاوية النظر التي تُظهِر لنا الأشياء انطلاقاً من الموقع الذي نراها منه. أما الذكاء العاطفي، الذي يتطور كلما ارتقى الإنسان في مراحل التطور النفسي، فهو -يقول المؤلف- قدرة الشخص على فهم مشاعره والتعامل معها وعلى فهم مشاعر الآخرين والتعامل معها أيضاً، لذلك فهو يساعد الإنسان على مواجهة مشكلات الحياة وتعقيداتها.. و«لحسن الحظ يمكننا زيادة الذكاء العاطفي عن طريق التدريب.. لما لذلك من فوائد عديدة في كثير من مجالات الحياة». وكذلك الأمر أيضاً فيما يتعلق بـ«تطور المشاعر الإيجابية»، فلزيادتها الكثير من الفوائد النفسية والصحية، لكنها قد لا تحدث تلقائياً، لذا علينا العمل على اكتسابها والتمرن على ممارستها حتى تصبح روتيناً اعتيادياً في حياتنا اليومية. وعلى جانب آخر من جوانب تطور الذات البشرية، يتعرض المؤلف لظاهرة «تطور ما بعد الصدمة»، أي الحادثة القوية التي غيرت كل شيء في حياة صاحبها، وأفقدته التوازن النفسي، وتحدت نظرته المعتادة لذاته، محدثة تناقضاً كبيراً بين طريقة تفكيره المعتادة، والواقع الجديد الذي أصبح يعيشه.. لكنه قد يستطيع حل هذا التناقض، وإعادة صياغة أفكاره بطريقة أكثر نضجاً تتناسب مع الواقع الجديد الذي فرضته الصدمة، فيصبح أكثر إدراكاً لمواطن قوته، وربما يكتشف أهدافاً جديدة لحياته تساعده على إعادة ترتيب أولوياته. وهذا ما يقصده المؤلف بـ«تطور ما بعد الصدمة». وأخيراً، فإن قارئ هذا الكتاب ربما يخرج منه وهو أكثر قدرة على الاشتباك مع منظومته الفكرية المجتمعية الخاصة، وأشد جرأة على تكوين رأيه الشخصي عبر التفكير من خارج الصندوق، وهذا مظهر من مظاهر التطور الحضاري عموماً، والذي فرض أسئلة أخلاقية جديدة لم يعرفها القدماء.. ومواجهة هذه الأسئلة هي ما يعكس عقلية الإنسان، أي بدهياته المعرفية وقيمه الأخلاقية. محمد المنى الكتاب: إنسان بعد التحديث المؤلف: د. شريف عرفة الناشر: الدار المصرية اللبنانية تاريخ النشر: 2017