ثمة الآن ثلاث قضايا تتفاعل الآن في الأجواء العربية، وهي بمعيار الأهمية مصيرية، وعلى نتائجها يتوقف مستقبل الصراع بين الساعين لتكوين كتلة عربية قادرة على بناء مشروع أمني جديد وبين المعارضين الساعين لربط مصير الإقليم بدول تعمل لفرض أجندتها الطائفية كما هو حال إيران، أو تسعى لإعادة الحياة إلى أجندات إمبراطورية كما هو حال تركيا أردوجان. وتتخذ الأزمة اليمنية قاعدة المثلث الأخطر في هذه المواجهة، كونها تشكل تهديداً مباشراً لمركز الكتلة المقاومة للمؤامرة الفارسية ضد العرب والعروبة، أي الرياض، وكلنا يعي أن أحدث متكئ تتخذه إيران مطيةً لتدخلها الإقليمي هو الحوثيون في اليمن. فقد تم إعداد مليشياتهم، وكانت مهمتها الاستيلاء على اليمن بغية استغلال موقعه الجيو سياسي، واستثمار الكتلة البشرية الفقيرة فيه وإغراء أفرادها لتكوين جيش جرّار تكون مهمته الأولى الزحف شمالاً إلى مكة المكرمة واستغلال فرصة عدم ممانعة أوباما في تسهيل مهمة إيران لخدمة نظرية «الفوضى الخلاقة». وبذلك يتحقق الحلم الإيراني في الانتصار على «الأعداء» وتثبيت الوجود الفارسي في الخليج أسوة بما حدث في العراق وسوريا، من جهة، ومن جهة ثانية تهيئة الظروف لمنح «الإخوان المسلمين» أرض مصر على نحو تكتمل معه خطة «الشرق الأوسط الجديد» ليبدأ عصر جديد ونظام دولي جديد يكون العرب فيه الفريق الأضعف الخاضع لإملاءات إيران وتركيا وأميركا، بأجنداتهم المكرسة لتقاسم مناطق النفوذ بين الدول الثلاث. وبذلك أيضاً يتم كسر شوكة العرب، ومن ثم الوجود الإسلامي القادر على تجديد نفسه في ظروف مختلفة. ومنذ إنزال الهزيمة الماحقة بالصليبيين عام 1187 في موقعة حطين، ظل الغرب يتربص بالعرب، ويعمل على تحطيم إرادتهم، مرة بإشعال الحروب المباشرة ومرات بعقد التحالفات مع الخونة من ضعاف الإيمان. وفِي كل عصر يجد الغرب ضالته التي يتكئ عليها، وكانت ضالته في عهد أوباما هي إيران. وما اليمن إلا حلقة من حلقات المؤامرة التي تبنتها إيران بالتحالف مع أميركا أوباما. وما الحوثي إلا أداة طيعة بيد الإيراني. إن المعركة الدائرة الآن في الحديدة غرب اليمن بين قوات الشرعية، بدعم إماراتي، وبين العصابات الحوثية هناك، تمثل المحاولة الإيرانية الأخيرة للهيمنة على اليمن، واستنساخ تجربة «حزب الله» اللبناني هناك. معركة الحديدة تقترب من نهايتها، وعندها سوف تفتح الأبواب للزحف نحو مدن كبرى مثل صنعاء وتعز وأب، وبها يتحقق النصر الناجز على إيران في المقام الأول، ثم على العصابة الحوثية، وأنصار «حزب الله» اللبناني وكل عملاء طهران في المنطقة. أما القضية الثانية، فتتعلق بالأزمة الاقتصادية التي يمر بها الأردن الشقيق، والتي أصبحت في حكم المنتهية بعد فزعة خادم الحرمين الشريفين، والاستجابة الفورية من جانب دولة الإمارات، ودولة الكويت لدعوته لنجدة الشقيق. فقد شكلت هذه الوقفة في مدلولها السياسي نموذجاً فذاً للتضامن العربي ولمعالجة الأزمات التي يتعرض لها بعض الأشقاء فيجدون مَن يقف بجانبهم في زمن قياسي. وهي كما نرى إيماءة قوية للتدليل على التضامن والتمسك الأخويين. فالسرعة التي تم بها إنهاء هذه الأزمة ووأدها في بدايتها، سلوك أخوي جدير بالإشادة، وقد شكل منعطفاً عربياً جديداً أنزل السرور على قلوب كل العرب المخلصين. لقد كانت نجدة فورية جاءت قبل أن تستفحل الأزمة، وتنضاف تداعياتها إلى كوارث «الربيع العربي» المشبوه. والذي يتأمل في حقيقة المصاعب التي مرّ بها الأردن جرّاء استضافته ملايين اللاجئين السوريين والعراقيين، وهو بلد محدود الموارد والإمكانيات، يمكنه أن يتخيل مقدار الثمن الفادح الذي ظل المواطن الأردني يدفعه كفاتورة لأخطاء الآخرين. فإيجاد حاضنة مستقرة يلجأ إليها ضحايا «البعث» في البلدين المجاورين (العراق وسوريا)، عملية مكلفة ومرهقة وشاقة للغاية. لقد أحسنت الدول الثلاث حين هبّت لإنقاذ الأردن الشقيق، دون شروط ولا إملاءات، وأخال الشعب الأردني الأصيل أكثر اقتراباً من شقيقاته الخليجيات إثر هذا الموقف النبيل. فالعربي لا ينسى من يقف بجانبه في لحظات الضيق، وأتوقع حالة من الانكماش لخطاب التطرّف الإخواني الزاعق، وهو خطاب لا يمنح إلا الغثاء والجعجعة والزبد الذي ذهب جفاءً فور انعقاد لقاء مكة المكرمة. وتبقى القضية الثالثة وهي العراق، فقد أفرزت نتائج الانتخابات الأخيرة مزاجاً عراقياً عربياً كان متوقعاً منذ أن سلَّم المالكي شؤون دولة عربية عريقة إلى الإيرانيين، وأسس حكمه على مبدأ التبعية لهم، منتهجاً ممارسات طائفية أضرت بالعراق وبتركيبته السكانية العربية. كنّا نتابع المشهد ونستمع إلى فتاوى عتاة المعممين الطائفيين، وعبارات الزهو والتعالي من الحاكم العسكري الإيراني «قاسم سليماني»، حتى كاد يتسرب إلى نفوس بعضنا انطباعٌ بأن العراق سقط في أيدي الفرس مرة أخرى. لكن يقين المتيقنين كان يرى بأن شعباً عربياً حضارياً لا يمكن أن يجره قادة مزدوجو الولاء للخضوع والاستسلام لدولة الولي الفقيه، وبأن شعباً عربياً أصيلاً وعريقاً مثل الشعب العراقي لابد أن يعيد وطنه إلى المسار العربي، إن عاجلا أو آجلا، وهو ما يحدث الآن بالفعل. ذهبت المظلة الأميركية للتيار الإيراني بقيادة المالكي، وبقي القادة العرب (سنة وشيعة) يتحينون الفرصة لإعادة وجه العراق العربي، وفي الانتخابات الأخيرة عبّر الشعب العراقي عن إرادته الحرة وعن خياره القومي الثابت. بقي فقط أن يقف العرب بجانب العراق بذات الحرص والتصميم الذي ظهر في الحالة الأردنية. ولا بديل عن تكرار نصرة الشقيق.