في عشرينيات وثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كان يساريون أميركيون كثيرون – من بينهم بعض أعضاء الحزب «الديمقراطي» – ينظرون إلى الاتحاد السوفييتي من خلال عدسات وردية اللون من المُثل المترسخة. فقد كان الاتحاد السوفييتي يمثل بالنسبة لهم «جنة اشتراكية»، ومكاناً يديره عمال صادقون يحاربون أشكال الظلم السياسي والاقتصادي التي تبتلي الولايات المتحدة.
جاذبية هذه النظرة كانت جد قوية لدرجة أن الكثيرين ممن كانوا يعتنقونها كانوا يجدون صعوبة في رؤية الوقائع الوحشية للنظام السوفيتي، حيث كان أصحاب هذه النظرة يرفضون التقارير التي تتحدث عن المجاعة والتطهير ومعسكرات الاعتقال باعتبارها «بروباغندا رأسمالية»، وكانوا يزدرون أصحاب تلك التقارير باعتبارهم «بيضاً» أو «رجعيين» أو حتى «فاشيين» – في إنكار تام لحقيقة أن الكثيرين ممن بدأوا في التحدث أولاً عن تجاربهم مع الستالينية كانوا شيوعيين سابقين أو اشتراكيين.
لقد ذُكِّرت بأولئك اليساريين المنفصلين عن الواقع خلال عطلة نهاية الأسبوع الأخير، عندما رأيت صورة كانت تروج على شبكة الإنترنت. الصورة كانت تُظهر رجلين أميركيين يرتديان قميصين متشابهين مكتوباً عليهما شعار «أفضِّل أن أكون روسياً على أن أكون ديمقراطياً». ومن الواضح أن كليهما كانا مسرورين بحالهما.
غير أن مثالهما يشي بالكثير. ذلك أنه يعكس إلى أي مدى انجرف الحزب الجمهوري اليوم وراء افتتان الرئيس دونالد ترامب غير العادي بروسيا.
هذه النزعة ليست جديدة بالطبع. فعلى مدى سنوات، رأينا الجمهوريين الأميركيين ينسجون علاقات مع نظراء روس بدا أنهم يجسّدون كل الأشياء اللطيفة التي لا يستطيعون الحصول عليها في الداخل: كره «قول ما هو صحيح سياسياً»، والدفاع عن «القيم المسيحية» من دون الحاجة لتبرير، وحكم رجل قوي يزمجر في الصحفيين والليبراليين من كل الأنواع.
والحال أن اليمين الأميركي مخطئ عندما ينظر إلى بوتين نظرة مثالية ويعتبره مدافعاً عن «القيم المحافظة». ذلك أنه أياً تكن القيم التي يعتنقها بوتين، فهي رهينة بالظروف كلياً – فهو سيفعل كل ما يلزم من أجل تعزيز قوة روسيا وقوته (لأن الاثنتين مترابطتان). والجمهوريون الذين لا يفهمون شيئاً منحوه فرصة رائعة ليستغلها.
ولنأخذ مثال ماريا بوتينا، العميلة الروسية المفترضة التي ربطت اتصالات مع «الجمعية الوطنية للبندقية» (جماعة ضغط قوية في أميركا تدافع عن الحق في حمل السلام وتُعتبر من أكبر الداعمين للحزب الجمهوري) باعتبارها «ناشطة مدافعة عن الحق في السلاح» من سيبيريا. فلو أن أي أحد من «الجمعية» حمّل نفسه عناء السؤال، لاستطاع أن يعرف بسهولة أن لدى بلدها سياسات صارمة بخصوص حمل السلاح. فمسؤولو الكريملن ما كانوا ليسمحوا بتحدٍ حقيقي لذاك المبدأ، ولكنهم يعرفون ما الذي يرغب «الجمهوريون» في سماعه.
والإنجيليون الأميركيون الذين يأتون إلى روسيا بحثاً عن حلفاء في المعركة ضد عدم الإيمان أثبتوا أنهم سذج أيضاً. فمخاطبهم الرئيسي، الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، كان لديها تاريخ طويل من التعاون مع النظام السوفييتي، تاريخ يمتد إلى الحاضر. كما أن الكنيسة تمثل ذراعاً للدولة أكثر منها مؤسسة دينية، وهي تسدد ثمن ذاك الولاء عبر مضايقة المنافسين المحتملين. فبوتين لن يسمح أبداً لبروتستانتيين إنجيليين أو كاثوليك بالتنافس في سوق حر للأفكار الدينية.
الزعماء الدينيون الروس يعجبهم أن يقولوا لنظرائهم الأميركيين – مثل مؤيد ترامب النجم فرانكلن غراهام – إلى أي حد يكرهون تفسخ العصر الحالي وانحطاطه. غير أن العظات لا تترك على ما يبدو أي تأثير على المستويات المرتفعة في روسيا من الفساد، أو انتشار المخدرات أو انتشار الإجهاض، الذي يظل الطريقة المفضلة لدى الكريملن للحد من النسل. وهذا رأي يشاطره بوتين، على فكرة – وإنْ كنتُ أشك في أن الكثير من «الجمهوريين» يدركون ذلك. وبـ480 حالة إجهاض من أصل 1000 ولادة حية، فإن معدل حالات الإجهاض في روسيا يمثّل أكثر من ضعف المعدل المسجل في الولايات المتحدة.
 
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»