أصبح ملف عودة اللاجئين السوريين ضمن أولويات السياسة الروسية في الأسابيع الأخيرة. ويعتقد المسؤولون في موسكو أن الوقت حان للبدء في الاتفاق على ترتيبات لوجستية لهذه العودة، وليس تشجيعها فقط. وبعد أن طرحوا خطة أولية على الدول التي يوجد فيها أكبر عدد من هؤلاء اللاجئين (لبنان، والأردن، وتركيا)، وأدرجوا الموضوع في البيان الذي صدر عن مؤتمر ما يُسمى «الدول الضامنة» الذي عُقد في سوتشي في 31 الشهر الماضي، يستعدون لمناقشة هذا الموضوع في قمة تجمع روسيا وألمانيا وفرنسا وتركيا في موسكو في الأسبوع الثاني من سبتمبر المقبل.
تعتقد موسكو أن الوضع في سوريا بات مهيأ للعمل مع المجتمع الدولي من أجل إعادة أعداد متزايدة من اللاجئين في دول الجوار الثلاث التي يوجد بها نحو ثلثي إجمالي من غادروا في سنوات الحرب منذ أواخر عام 2011. يعتقد الروس أيضاً أن أعداد اللاجئين الراغبين في العودة كبيرة. ولذلك أرسلت موسكو فرق عمل إلى الدول الثلاث لتيسير إجراءات العودة، غير أن الأرقام المتداولة بشأن اللاجئين الذين عادوا إلى سوريا في الشهرين الماضيين لا تدل على وجود اختلاف ملموس، مقارنة بما كانت عليه في العامين الأخيرين، أي منذ منتصف عام 2016.
وربما تزداد معدلات العودة في الفترة المقبلة، ولكن في حدود أقل بكثير مما يبدو أن روسيا تتوقعه، أو تسعى إليه، وفق خطابها الرسمي. فقد أحدثت الحرب دماراً هائلاً، وأدت إلى تغيير اجتماعي وديموغرافي واسع النطاق.
وأصبحت العوامل المحددة لعودتهم كثيرة ومتشعبة، لكن هناك محددين رئيسين ينطوي كل منهما على متطلبات مُلحة. المُحدَّد الأول يتعلق بإمكانات تسوية أوضاع العائدين القانونية والأمنية. وتكتسب الحاجة إلى هذه التسوية أولوية قصوى بسبب الصعوبات المترتبة على القانون 10 لسنة 2018 الذي حدد شروط استعادة العائدين أملاكهم. وتبدو هذه الشروط في مجملها صعبة بالنسبة إلى عدد كبير من اللاجئين، سواء من حيث الأوراق والمستندات المطلوبة التي لم يحملها معهم كثير من الذين فروا بحياتهم، أو من زاوية المدى الزمني القصير الذي يتعين عليهم الالتزام به.
ومن دون تعديل هذا القانون، أو إبداء السلطات السورية مرونة واسعة في تطبيقه، سيتعذر على كثير من العائدين استعادة منازلهم التي سيقيمون فيها ما لم تكن قد هُدمت، أو الأرض التي كانت مقامة عليها. وإذا كان منطقياً أن يرغب في العودة بالأساس من يعرفون أن منازلهم مازالت قائمة، أو يملكون ما يكفي لإعادة بنائها على أراض يفترض أنهم يملكونها، يصبح التطلع إلى إعادة أعداد كبيرة منهم مرهوناً بحل هذه المشكلة القانونية.
ويضاف إلى ذلك أن عشرات الآلاف من المواليد الجدد رأوا النور في بلدان اللجوء، ولا توجد بالتالي شهادات ميلاد لهم، لأنهم لم يُسجلوا في سجلات الأحوال الشخصية السورية. كما أن بعضهم لم يُسجلوا في سجلات البلدان التي وُلدوا فيها أيضاً، ولا يملك أهلهم بالتالي أية وثائق تُثبت هويتهم. وهذه مشكلة نوعية أخرى تتطلب حلاً.
ولا يقل أهمية مدى استعداد السلطات السورية لتقديم ضمانات بشأن الملاحقات الأمنية المتوقعة لبعض العائدين، حسب تصنيف كل منهم ليس لدى أجهزة أمن سورية فقط، بل لدى ميليشيات أجنبية تابعة لإيران في بعض المناطق.
أما المُحدَّد الرئيس الثاني، فهو كيفية تأمين التمويل اللازم لإعاشة العائدين، وتوفير أبسط الخدمات إلى أن يتمكنوا من تدبير أمورهم. ويتطلب ذلك تدفقات مالية منتظمة لمساعدة العائدين على التكيف مع الأوضاع التي سيعيشون فيها، وتوفير الغذاء والعلاج وسبل الحد الأدنى من الحياة لهم، خلال الفترة التي سيستغرقها وصولهم إلى حالة تمكَّنهم من الاعتماد على أنفسهم، لكي لا يضطر بعضهم، أو كثير منهم، إلى المغادرة مرة أخرى.
وتعرف روسيا جيداً حجم هذه المشكلة، كما يتضح من مذكرة أرسلتها إلى واشنطن في 19 يوليو الماضي، ونشرت «رويترز» ملخصاً لها قبل أيام، وطلبت فيها التعاون لإعادة نازحين أقام الأميركيون مخيماً لهم في منطقة متاخمة لمواقع «قوات التحالف» قرب الحدود مع العراق. وجاء فيها أن الحكومة السورية تفتقر إلى المعدات والوقود وغيرها من مستلزمات إعادة إعمار البلدات التي نزحوا منها. غير أن الفتور الذي استُقبلت به المذكرة الروسية في واشنطن يدل على أن قمة هلنسكي (عُقدت قبل أيام على إرسالها) لم تسفر عن اتفاق على أية صيغة لمساهمة واشنطن في عودة اللاجئين، الأمر الذي يُبقي السؤال عن كيفية تمويل هذه العودة مفتوحاً.