يبدو أن رئيس الحكومة الماليزية مهاتير محمد، بعد عودته الدراماتيكية إلى السلطة في مايو الماضي، لم يجد أمامه ما يعبر به عن غيرته مما وصلت إليه سنغافورة من رخاء أكثر بكثير مما حققته بلاده، وهي التي طردها أسلافه من اتحادهم في الستينيات، سوى الدخول في مشاكل مع جارته السنغافورية الصغيرة حول المياه. ففي الآونة الأخيرة كثرت تصريحات مهاتير حول اتفاقية تم التوقيع عليها في عام 1962 تبيع ماليزيا بموجبها لسنغافورة ما تحتاجه الأخيرة من مياه، معتبراً تلك الاتفاقية «سخيفة ومجحفة». وللمعلومية فإن الاتفاقية، نصت على أن سنغافورة بإمكانها استيراد 250 مليون غالون من المياه الخام (غير المصفاة) من نهر جوهور كحد أقصى مقابل 0.03 «رينجيت» ماليزي لكل ألف جالون، كما نصت بوضوح على أن مفعولها ينتهي في عام 2061. وحينما خرجت سنغافورة من الاتحاد الماليزي في عام 1965 تم توثيق الاتفاقية بموافقة طرفيها لدى هيئة الأمم المتحدة، وبالتالي صارت خاضعة لأحكام القانون الدولي.
على أن مشاكسة مهاتير لسنغافورة ليست بالجديدة. فحينما كان في الحكم قبل تقاعده أثار موضوع المياه هذا، وطالب بضرورة مراجعة سعرها القديم، الأمر الذي خلق أزمة في علاقات البلدين الثنائية سنة 2000. وعلى الرغم من مسارعة السنغافوريين إلى احتوائها عبر المفاوضات، إلا أن المفاوضات سرعان ما تم تعليقها بسبب تصلب الطرف الماليزي. وعليه فإن السنغافوريين كانوا يعلمون مقدماً أن عودة مهاتير إلى السلطة معناه عودته إلى إثارة ملف المياه مجدداً، بعد أن تم وضعه جانباً في عهد رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب رزاق الذي حرص خلال ولايته على تعميق روابط بلاده مع سنغافورة والدخول معها في مشاريع مشتركة لخير البلدين بدلاً من إثارة المشاكل.
يعلم الجميع أن الزعيم الماليزي يسعى جاهداً لتصفية كل آثار سلفه «نجيب رزاق» الذي اعتبره غير مؤتمن على مستقبل البلاد. لذا فإن السنغافوريين لم يـُصدموا فقط بعودة ملف المياه إلى السطح، وإنما فوجئوا أيضاً بأمرين آخرين، أولهما قيام مهاتير بتأجيل مشروع لربط كوالالمبور بسنغافورة بخط حديدي سريع كلفته الإجمالية نحو 248 مليار دولار أميركي، وهو مشروع قيل إن تأجيله مرتبط بالضغط على الجانب السنغافوري كي يقبل التفاوض حول تعديل أسعار المياه، وإنْ حاول مهاتير التذاكي بالقول إن التأجيل مرتبط بخططه لتوفير الأموال من أجل تقليص الدين العام. أما الأمر المفاجئ الثاني فهو دعوة مهاتير لسنغافورة أن تعود وتبيعها كمية من المياه الماليزية المشتراة بعد معالجتها، علما بأن هذا الموضوع لئن كان منصوصاً عليه في اتفاقية 1962، فإن كوالالمبور تجاهلته طويلاً. ويعتقد أن إثارته اليوم لها علاقة بتولي «عثمان سابيان» رئاسة الحكومة المحلية لولاية جوهور. والأخير عضو في حزب مهاتير الجديد (الحزب الماليزي المتحد الأصلي) وفاز معه في الانتخابات الأخيرة، وبالتالي فهو يتبنى طروحات سيده حول تعديل اتفاقية 1962، بل زايد عليه بالقول إن أسعار المياه قد تضاعفت 16 مرة وأن السعر المطلوب اليوم لكل ألف غالون هو 0.50 سنت.
ويتوقع المراقبون أن تتمسك سنغافورة بموقفها الرافض لخطوات مهاتير، يسندها في ذلك القانون الدولي. فقد قال وزير خارجيتها «فيفيان بالاكريشنان» إن «العودة إلى نغمة تعديل أسعار المياه المشتراة من ماليزيا، إنما هو اختبار لمدى استقلالنا وحريتنا في اتخاذ القرار». كما يتوقع المراقبون أن تحمي سنغافورة نفسها عبر إيجاد البدائل والسعي للوصول إلى حالة الاكتفاء الذاتي التام بحلول سنة 2060، خصوصاً وأنها إحدى أكثر الدول تقدماً في تكنولوجيات تحلية وتكرير المياه. تشهد على ذلك استثماراتها الضخمة في معالجة المياه وإعادة تدويرها، علاوة على الإنفاق السخي على الأبحاث المتعلقة بهذا الشأن والذي تجاوز 400 مليون دولار أميركي منذ عام 2002.
وطبقاً لتقرير كتبته صحيفة «آسيا تايمز» الصادرة في هونغ كونغ، فإن سكان سنغافورة البالغ تعدادهم 5.7 مليون نسمة يستخدمون كمية من المياه تقدر بحوالي 430 مليون غالون يومياً. وهذه الكمية تأتي من أربعة مصادر: أولها مياه الأمطار التي يجري جمعها في خزانات ضخمة موزعة على مناطق البلاد المختلفة؛ وثانيها المياه المستوردة من ماليزيا بعد تكريرها؛ وثالثها مياه الصرف الصحي التي يتم ترشيحها وتطهيرها بتقنيات عالية الدقة إلى درجة أن سنغافورة صارت رائدة في هذا المجال على مستوى العالم، ورابعها مياه البحر التي تتم تحليتها. وإذا كان المصدران الأول والثاني غير مكلفين كثيراً لأن معالجتهما تحتاج إلى طاقة كهربائية قليلة، فإن المصدرين الثالث والرابع يستنزفان طاقة كهربائية كبيرة وبالتالي فإن تكلفتهما تزيد بأضعاف المرات.
وفي التقرير نفسه، ما يفيد أن من بين الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السنغافورية لحماية البلاد من شح المياه أو أي تصرفات غير ودية قد يلجأ إليها مهاتير محمد تحت يافطة «حماية الحقوق الوطنية» أو «التخلص من إرث نجيب رزاق»، زيادة أسعار الماء المستهلك بنسبة 30 بالمائة على مرحلتين. وقد أدت هذه الخطوة إلى تراجع الاستهلاك المنزلي اليومي لأول مرة منذ عقود من الزمن من 148 إلى 143 لتراً للفرد الواحد.