تشتغل الحياة السياسية الأميركية وفق دستور وقوانين تطورت على مدى أكثر من قرنين من الزمن. ويميل الأميركيون إلى اللجوء إلى المحاكم بحثاً عن حل لنزاعاتهم، لأنهم يريدون من القضاء المحايد تأكيد شرعية آرائهم. كما يلجأون إلى ممثليهم المنتخَبين طلباً لدعمهم. ولهذا فإن المحاكم والصحافة والكونجرس مؤسسات بات الأميركيون يعتمدون عليها كثيراً من أجل الطعن في الحكومة، أو أفراد عندما يريدون تصحيح ما يرونه إجحافاً.
فحينما انتُخب الرئيس دونالد ترامب وسعى إلى استخدام الصلاحيات التي يتيحها له منصبه إلى أقصى حد من أجل تحقيق أهدافه، قاوم خصومه ذلك عبر اللجوء إلى المحكمة والتعبير عن معارضتهم في الصحف والبرامج التلفيزيونية التي تتناغم مع انتقاداتهم. وعلى سبيل المثال الأوامر التنفيذية التي أصدرها ترامب وتحظر على المسلمين دخول الولايات المتحدة، ففي البداية طعنت المحاكم في تلك الأوامر، وتعرضت الكثير من تصريحات ترامب وأقواله للانتقاد من قبل الجزء الذي كان يختلف معه من الصحافة.
ولكن في الجو السياسي الأميركي الحالي، الذي أصبح فيه معظم النقاش السياسي مثيراً للاستقطاب وأصبح فيه المواطنون من أنصار ترامب ومعارضيه أكثر تطرفاً في آرائهم، هناك تركيز على القواعد غير المكتوبة للسلوك السياسي في أميركا والتي تُعد مهمة جداً خارج إطار القوانين الأساسية والمؤسسات. هذه القواعد تُحترم عادة، ولكن لأنها لم تُكتب ولم تُحول إلى قوانين، فإن القواعد نفسها باتت محل جدل بين طرفي النقاش. فالمؤسسات الرسمية قوية ولكن القواعد غير المكتوبة تخضع للطعن. وفي ما يلي بعض الأمثلة الحديثة لهذا النقاش حول الثقافة السياسية التقليدية.
«جون برينان» كان مديراً لوكالة الاستخبارات المركزية، الـ«سي آي إيه»، لأربع سنوات في عهد الرئيس أوباما، وقبل ذلك كان لديه مسار مهني طويل في الاستخبارات الوطنية. وقد استقال من منصبه عندما وصل ترامب إلى البيت الأبيض، ومنذ ذلك الحين وهو يعبّر بشكل متزايد عن انتقاداته لترامب بشكل علني، حيث أعلن إلى جانب العديد من المسؤولين الأمنيين السابقين أن روسيا تدخلت بشكل غير قانوني في انتخابات 2016. وعندما التقى ترامب مؤخراً مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورفض استنكار ذاك التدخل، وصف برينان ذاك الرفض بأنه «يرقى إلى الخيانة».
وعقب ذلك، عمد الرئيس ترامب إلى إلغاء التصريح الأمني الذي كان بحوزة «برينان». ويُذكر أن هذا الأخير كان قد سُمح له بالاحتفاظ بتصريحه وفق تقليدٍ يقوم في إطاره الرؤساء في كثير من الأحيان بطلب النصائح والمشورة من المسؤولين الكبار المتقاعدين ويسمحون لهم برؤية معلومات سرية حديثة في ذاك الدور الاستشاري. ولكن ترامب لم يطلب النصيحة من «برينان» أبداً ويَعتبر أي مسؤول سابق من عهد أوباما معادياً له بشكل أوتوماتكي. وهكذا، فعندما انتقده برينان، قرر أن يعاقبه عبر إلغاء تصريحه.
منتقدو ترامب عبّروا فوراً عن دعمهم لـ«برينان»، قائلين إن لديه الحق كمواطن عادي أن يتحدث ويعبّر عن رأيه. كما أعلن مسؤولون رفيعون سابقون عن تضامنهم مع «برينان» باعتباره مواطناً مخلصاً ومتميزاً تُعتبر آراؤه ذات قيمة كبيرة بالنسبة للرأي العام. ولكن السيناتور «الجمهوري» ليندسي جراهام دعم ترامب، قائلاً إن انتقاد «برينان» لترامب يمثّل خرقاً لتقليد أميركي يقضي بامتناع المسؤولين السابقين عن انتقاد الرئيس الحالي. ويتمثل جوهر حجة غراهام في أن برينان لم يلتزم بالثقافة السياسية الأميركية.
الجدل حول الثقافة السياسية انطلق حول حرية الصحافة. فالعديد من الصحف والقنوات التلفزيونية أصبحت منتقدة لسياسات الرئيس ترامب بشكل مزايد ووثّقت الحالات الكثيرة التي لم يقل فيها الحقيقة. والواقع أن مثل هذا الانتقاد القوي من قبل الصحافة لرئيس أميركي هو أمر غير مسبوق في السنين الأخيرة. وقد رد ترامب على ذلك بوصف الصحافة بأنها «عدو الشعب»، متهماً العديد من الصحافيين باختلاق «أخبار كاذبة». كما هاجم صحافيين ومنع بعضهم من حضور مؤتمراته الصحافية. ويقول منتقدو ترامب إن هجومه على حرية الصحافة يمثل خرقاً للمعايير الثقافية الأميركية لأنه يشكك في نزاهة مؤسسة يجب أن تحظى بالتوقير والاحترام.
وفي 16 أغسطس، نددت صحيفة «ذا بوسطن جلوب» ضمن افتتاحيتها بهجمات ترامب على الصحافة باعتبارها انتهاكاً لمعايير ثقافية محترمة. وقد نجحت الصحيفة في إقناع أكثر من 400 صحيفة أميركية أخرى بتخصيص افتتاحيات في اليوم نفسه للدفاع عن الصحافة ضد هجمات ترامب. وقالت هذه الصحف إن حرية الصحافة لا يضمنها الدستور فحسب ولكنها تمثل أيضاً مبدأً راسخاً في الثقافة الأميركية خرقه الرئيس. غير أن ترامب رد على ذلك بالقول إن النشر المتزامن لافتتاحيات متشابهة من قبل الكثير من الصحف «إنما يثبت» أن رؤساء التحرير والصحافيين «متواطئون» في مهاجمة الرئيس. وزعم أنصاره أن هذا يمثل انتهاكاً للمعايير الثقافية الأميركية. وهناك حدث آخر وقع مؤخراً وأثار جدلاً حول موضوعين جد حساسين هما آراء الرئيس ترامب وسياساته بشأن السود والنساء. فبعد وصوله إلى الرئاسة، عين ترامب امرأة سوداء، تدعى «أماروسا مانيغولت نيومان»، في منصب مستشارة رفيعة في البيت الأبيض. وقد ظهرت مع الرئيس بشكل بارز في بعض الصور. وقال أصدقاء ترامب إن هذا دليل على أن ترامب يدعم السود والنساء. وبعد ذلك استقالت من منصبها وأعلنت أن ترامب هو في الحقيقة شخص عنصري ومعاد للنساء. وقد سبب ذلك إحراجاً لترامب، ثم زاد الإحراج أكثر عندما أعلنت «أماروسا» عن تلقيها عرضاً يتعلق بوظيفة ذات راتب جيد من أجل إسكاتها.
هذا الحادث يثير مرة أخرى سؤال ما إن كان ينبغي أن يُسمح للمسؤولين السابقين بانتقاد مديرهم السابق. والواقع أن هذا ليس مخالفاً للقانون، إلا إذا كانوا وقعوا اتفاق عدم الكشف عن معلومات تسنى لهم الاطلاع عليها بفضل وظائفهم. وعلاوة على ذلك، يقول منتقدو ترامب إن لدى «أماروسا» كل الحق في أن تقول ما يجول في ذهنها. ولكن أنصار ترامب يعتقدون أن ثمة قواعد سلوك غير مكتوبة تمنع المسؤولين السابقين من التحدث عما رأوه داخل الإدارة.
وفي الأثناء، يخضع مدير حملة ترامب الانتخابية السابق «بول مانافورت» للمحاكمة، محاكمة كان ترامب قد وصفها بأنها غير عادلة. والحال أن الرؤساء الأميركيين يفترض ألا يعلّقوا على القضايا المعروضة على القضاء التي قد تؤثر عليهم، واليوم يخشى بعض المنتقدين أن يُصدر عفوا عن «مانافورت» في حال تمت إدانته. وخلاصة القول إن دونالد ترامب رئيس غير تقليدي. إنه يقوم دائماً باختبار الحدود، ليس حدود الدستور والقوانين فحسب، ولكن أيضا حدود القواعد والتقاليد السياسية غير المكتوبة. وهذا أمر جديد!