دولة العراق وجيش العراق، لا يوجد أحدهما من دون الآخر، ويتلاشى أحدهما بتلاشي الآخر. وقوة الجيش العراقي ليست بالطائرات والمدافع والبنادق، ولا حتى بالجنود والضباط، بل بقوة الدولة وبُنيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وخلافاً للمألوف، تأسس الجيش العراقي عام 1922، قبل سنتين من تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1924، وورث تقاليد «بلاد ما بين النهرين» الموثقة عبر آلاف السنين في منحوتات ورسوم بابلية وآشورية، تصور حروب ومعارك خاضتها أجيال متعاقبة، وكان أفرادها يتسلون وقت السلم بصيد الأسود!
كتاب «طائرات الميراج العراقية في القتال 1981-2003»، الصادر بالإنجليزية هذا الشهر، مدخل جميل للتداخل العضوي بين جيش ودولة العراق، وهو موسوعة وثائقية بالألوان في 230 صفحة من القطع الكبير، و200 صورة، معظمها ميدانية، وبعضها مستقى من أشرطة تسجيلية لعمليات حربية. ويحوي الكتاب 70 رسماً و13 خريطة، بينها خريطة العراق، مؤشر فيها على مواقع 52 قاعدة ومطاراً عسكرياً، وكثير من الصور لطيارين عراقيين في مقتبل العمر، بالغي الوسامة، كنجوم السينما، وبينهم من قضى نَحبه في العمليات العسكرية في الخليج العربي.
والكتاب حافل بمعلومات فنية عن إبداعات تقنية وقيادية حققها طيارون ومهندسو طيران عراقيون استخدموا خبراتهم في أنظمة السلاح السوفييتية والفرنسية، فأدخلوا مسبار طائرة «ميغ الروسية» للتزود بالوقود في طائرة «ميراج الفرنسية»، وإبداعات أخرى فوجئ بها رئيس أركان الجيش الفرنسي «موريس شميدت» في «معرض بغداد للإنتاج العسكري» عام 1989، فهتف: «ما هذا الجحيم!». وأطلق العراقيون اسم «الهدهد» على أداة ابتكروها لتمكين طائرة «ميراج» من تصوير الهدف لحظة إصابته، من دون الحاجة إلى طائرة أخرى للقيام بذلك. و«بروح الإبداع التقليدية العراقية»، حسب مؤلف الكتاب، قام الطيارون بعملية تجسسية ماكرة لتصوير جزيرة «سري» الإيرانية، حيث تحايلوا على المخابرات الإيرانية بطائرة تجارية صغيرة انطلقت من قاعدة عسكرية في العراق إلى أثينا، ثم إلى روما، ومنها إلى أبوظبي، وأخيراً إلى دلهي، حيث اقتربت الطائرة تماماً من جنوب جزيرة «سري». واستخدم مصور الطائرة كاميرة تصوير مجهزة بعدسة «نيكون» تلسكوبية لتصوير الجزيرة المعروضة في الكتاب.
والمبادرة لتأليف الكتاب صدرت من آخر قائد للقوة الجوية العراقية، اللواء صلاح إسماعيل، وساهم اللواء علاء الدين مكي في الكتاب، الذي ألّفه «ميغويل غارسيا» وهو إسباني حاصل على ماجستير علوم الكومبيوتر من جامعة أشبيلية. و«غارسيا»، الذي نشأ في عائلة عسكرية تفتّحت عيناه على العالم في «حرب الخليج» عام 1991، وأُغرم بالعراق، وأقام عبر التواصل الاجتماعي علاقات شخصية مع عسكريين عراقيين سابقين، شاركوه بمعلومات «ساحرة عن تجاربهم جعلتني مؤرخاً مختصاً بتاريخ الجيش العراقي»، حسب رسالة شخصية، ذكر فيها أنه «متفرغ الآن لبحث تاريخ الجيش العراقي».
وقوة العراق بقوة عاطفة العراقيين العسكرية المتوارثة، والتي أعادت بناءه، وأحياناً من نقطة الصفر. فالمُنتِج الفني للكتاب «واثب القزويني» فنان موهوب، وباحث في تاريخ الطيران العسكري، ولد في ألمانيا عام 1987 من أبوين عراقيين، وترعرع في برلين. ويذكر في رسالة شخصية أن ولعه بالمحركات العسكرية «نشأ مذ كنت في الثالثة، وانتبهت في وقت مبكر إلى افتقار المؤلفات العالمية عن الجيوش إلى معلومات موثقة عن الجيش العراقي، ووجهة نظر العراقيين، فبادرتُ إلى الاتصال بالعسكريين العراقيين، وشرعت في بحث عظيم». وينشئ الآن مع مؤلف الكتاب مدونة «أرشيف الجيش العراقي القديم». وتُعبر عن عاطفته العراقية المشبوبة صورة رسمها لغلاف الكتاب، تبدو فيها الطائرات، برغم واقعيتها المدروسة بدقة كبيرة، كأنها كائنات حية. وأروع رسومه «اللحظة الأخيرة»، وهي لوحة زرقاء تصور طائرة الملازم الأول «كامل حسين» عائداً من هجوم بالصواريخ، عندما فقد السيطرة على مقود الطائرة، أثناء تحليقه المنخفض، تجنباً لرادار العدو، وهو في طريق عودته إلى مطار "الشعيبه" في سبتمبر 1984.