في عفرين، وفي الغوطة الشرقية، في سوريا كلها، يحضر العالم بكل غضبه ونفاياته التاريخية ولا يحضر العرب، هناك يستمر الحِنث والخبث والعبث، وهناك يحضر الدمار والاندثار والغبار والسعار، ويغادر العرب إلى مكان قصي، حيث يمكث النسيان والسلوان والهجران، والشعب السوري وحده يواجه الجحافل بصدور عارية، إلا من الأمل المكسور والويل والثبور، لأن العرب خبؤوا العزيمة خلف غيمة الفشل، واستراحت جيادهم عند شجرة اليأس والقنوط، وظلوا متفرجين على المشهد، والغابة تحترق، والغزلان تسوطهم الأجندات والمغامرات والمداهمات والخيانات، استسهالاً لضرب الجسد الميت سريرياً. هدنات هنا، ومراوغات هناك، ولا شيء يبرز في الأفق لأن النوايا رزايا، ولأن الصدق دفن مع غثيان الحقيقة، ولأن الحقيقة غشيتها موجة من الوهم والحزن الأسطوري، الذي لم نسمع به إلا في الروايات البوليسية، وما أخفته صدور الذين علقوا مشنقة سوريا على مشاجب الكذب والافتراء، والتصريحات الأشبه بالزبد ورغوة الصابون المقلد. رجال ونساء وأطفال، يحملون الأتفه من زاد الدنيا، ويقفون خلف الممرات الملتهبة، لعل وعسى تطفو على السطح قشة تحملهم إلى ما بعد الحصار، ولكن لا جدوى لأن المتقاتلين لا يزالون يحملون في جعبهم من الحقائب السرية، ما يجعلهم يخفقون بوضع الأيدي على الزناد، ومن تسول له نفسه بمغادرة الغوطة الشرقية فالحتف المأساوي في انتظاره، والقناصون يتربصون مثلما تفعل الضواري، ولا حياة لمن تنادي. قالت المرأة السورية وامعتصماه، والمعتصم لجم الفاه، وخبأ الإرادة في معطف اللامبالاة، واسترخت على أريكة وعيه الشارد في أماكن أخرى. سوريا تتناهشها الأنياب والمخالب، والعرب قلموا أظافر الهبَّة والفزعة، وانطووا تحت لحاف مراحل ما بعد الفراغ ذاهلين ساهمين غائبين عن درس الحقيقة، تشملهم برودة الشتاء أو تلفهم حرارة الصيف، ولا شيء يبرز في الحدق سوى دمعة امرأة وصرخة طفل في وجه عالم متوحش، ودول تتلاطم على أرض سوريا، مثل رؤوس أفراس النهر الغاضبة، مثل ثيران إسبانيا المحتدمة، مثل الفراغات في وعاء صدئ.