«في أمان الله» كانت حروفك الأخيرة، آخر ما نطقت، وآخر وداع تختم به حياتك المديدة في بحر الزمان المتلاطم والمتغير، الزمان بعطفه وحبه وقساوته، حيث غامرت كثيراً وتحديت كثيراً، وقفت صخرة أمام القبح كي لا يتمدد في زمانك، في محيطك وفي روحك.. حملت شعلة تبدد بها الظلام وتزرع وردة أينما حللت.. بصلابة الشراع في وجه الريح كنت، لم تنهزم وبقيت مصراً على عزتك وطهارة روحك. في «أمان الله يا أبي» في أمان الخالق وفي أمان روحي، في تفاصيل الذاكرة، في حضورك الذي لن يفارق المخيلة وأنت تفرش لنا طريق الطفولة وتنتشل سقوطنا.. وأنت في شبابك وفي آخر العمر، حيث تتداخل كلمة أب وابن لتصير عمراً مشتركاً تطرزه ذاكرة مشتركة وأحلام، تصير حنان الأبوة في أقصى تجلياته واتساع قلب الابن في مداه العالي. لك تفتح الحدود في مجال الرؤية، وأراك ترى الضوء البعيد بعيوني، تتمنى لنا أكثر الأزمنة جمالاً وحباً؛ تتمنى لنا حناناً يغلف البيت وجمعة لا يكسرها التفرق ولا يسكنها الخوف، جَمعة بقلوب قوية يزينها الصدق والمبدأ الذي لا يلين، حيث شرف الكلمة نيشانه وصدق الوعود. لك يُشرع قلبي كي تردد قصائد شعراء الحب في فضاء البيت، حتى حين تخذلك الذاكرة أحياناً، وحين تعود إليك الحروف والكلمات والأبيات معتذرة علها آذتك، تعود كي تطبب شعورك، ويبقى القلب منصتاً بلطف. لك تصير الروح بحراً متسع المدى، تدندن فيه أغاني البحر وذاكرة السفن، لك يا أجمل تجليات الأب في هذا العمر وهو يمضي شغفاً بالحياة، لك وحدك انحناءة التبجيل والاعتذار والخوف، لك الابتسامة صافية كقطرات كرستالية تهطل من السماء، لك أبي تذرف عيني الدموع وتتمنى تأجيل الرحيل.. تتمنى أن تتابع جملتك وتقول نراكم غداً أو الجمعة القادمة، أن لا تترك هذا الفراغ الشاسع وتحرمنا من تقبيل يديك ورأسك المملوء بتفاصيل وأحداث. في وداعك الأخير، حيث تمدد الجسد ساكناً، هز فقدك القلب بشدة، كأن كياناً يشد أزرك ويلبسه السكينة في هذا المتغير من الزمان قد توقف، أمتنع عن أن يكون موجوداً، لتبقى الذاكرة وحدها تحتفظ بكل تفاصيل حضورك منذ شقاوة طفولتي وحتى عمري هذا البالغ أربعة وخمسين عاماً، تفاصيل آثار الزمن عليك، قسوتك ولطفك، غضبك ومحبتك، حكمتك ونصائح الحياة؛ كل تلك الذاكرة ستحفظ وجودك برغم الموت وانتفاء الجسد. أعلم ستزورنا روحك كثيراً.. سنفرح بظلالها وندس لروحك المحبة كلما مررت علينا يا أبي.