من أيام الصغر تحضر دلالة جميلة تزهو بالروح والروعة. أراها وهي تتكئ على حائط البراءة، مهدها حيث يحلو لها أن تكتشف الذات البكر، وما حولها من بيئة حياتية، تبصرها الحياة الآن بمرايا غدت في محور الذاكرة، وبعد سنوات من العمر، تهب لنفسها الحضور والدلال على ذلك العمق الحياتي، فالمكان بات يتصف بالغياب التام، هربت منه تلك العذابات الجميلة، التي نقشت في الحجر، وتداعت ويلات الروعة وخداعات الزمن، وشقاء الضحك والمداعبة الجميلة، وبقيت في استرسالها الشاخص. تلك العجوز الساكنة في زاوية صغيرة، وفي حارة قريبة من سوق العين القديم، سوقها الأقدم، وقريباً من مسجد الشيخة سلامة، وما زالت مآذن المسجد تجدد صوت السكينة بالصلاة في الحارة، وما زالت ذكرى تلك العجوز تمر كما لو بيتها الصغير ما زال محاطاً ببيوت الجيران، كما لو أنهم ما زالوا يجودون عليها بالخيرات.. كان لها صوت جهوري متمرد على صمت الحارة وهدوئها، كانت تباغتهم ليلاً بصوتها، وبكلمات عجمية غريبة، لا أحد يفهمها إلا قلة من ذويها المجاورين لها. كان ينبثق الفجر، وهي تسترسل في التذمّر ربما من الحياة، وكأنها تؤثر الرحيل، بعدما أخذها الزمن وتجاوز أحلامها.. إنها الحياة حين تمتد في صقيع العمر، وتقسو على الكائن البسيط وتوجعه. كان خلف بيتها الصغير ملعب رملي لكرة القدم، محفوف بالحجر ونتوءات الصخور، التي تخترق سيقان الصغار كلما سقطوا، إلا أن سقوط العجوز كان عجيباً، حين قررت أن تعبر الملعب إلى بيوت جيرانها، غير عابئة بما سيحدث لها.. سقطت بفعل كرة طائشة سكنت برأسها الصغير الذي تعرى، أصابتها بإغماءة لكنها سريعاً ما نهضت، وبمساعدة المارة الذين نقلوها إلى منزلها الصغير، الذي نعم بالهدوء تلك الليلة والليالي التي تلتها.. لكن الحارة عادت لتسمع صوتها الجهوري من دون أن تضجر. فمن حياة المدن، نستشف قصصاً وشواهد ربما تجمدت وجوهها، لكن ذكراها بقيت حاضرة، وهي من المرويات والحكايات اليومية بين الآباء وأبنائهم، وعادة فإن تلك القصص لا تذكرها الحكايات الشعبية المتداولة، برغم أنها تمثّل رصيداً مهماً للحياة وللذاكرة، ويمكن أن يستشف منها الكثير عن التحول الذي طرأ بين زمنين خضعا للتصحر والتحضر، وتقاسما الأصالة الثقافية والمجتمعية. تمضي ذاكرة الماضي في استرجاع ذلك العبق الجميل، وبه تحصي كل ما يواكب روح المجتمع وثقافته.