هذه المدينة التي تطل بعينيها الساحرتين على بحر قزوين، وهي تعلم أنها تشغل التاريخ والزمن، وتزف حقبة من السنوات والأسرار، وتدهش الزائر بنقوش الحضارات الإسلامية والأوروبية وما قبلها، تقف معالمها شاخصة تستدرج القادم.. مدينة تموّجها الرياح في جغرافية غريبة، وتحضر فيها ثقافياً الأسماء الجميلة، وتعنونها المترادفات المشتقة من التنبؤات، وتلهبها نار المعابد الخافتة في النسيان، وترسمها النقوش الهندية المتوارية، وتكتبها (اليونيسكو) في المعالم المهددة بالاندثار.. لذا تتناغم مدينة باكو، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، مع ما تضفيه عليها أعراق متجانسة في الركائز الثقافية. هذه الإشراقة والروح الثقافية تتجسد أبعادها في مركز حيدر علييف، وهو من لمسات المصممة العربية زهاء حديد، التي رسمت بريشتها الساحرة شكله الرائع والمتموج على حضارات العالم وفنون المعالم الإنسانية. إنه تحفة الحياة كما رأيته، يمتزج ويتمازج مع جميع العصور وقيمها التاريخية. تتوازى هنا الحياة بكل ناسها البسطاء المهمومين كأنهم غير معنيين بالزمن وبمعطياته. يشي بهم مشهد ترحابهم لبعضهم بعضاً بعناق لا يبارحه الشوق. تجدهم في غربة مع الزمن، وهم أقرب إلى النهج العائلي المتسم بالحميمية المفرطة، ومثلما رأيت بإحدى الحدائق حين سقط طفل عن دراجته، هرع إليه الأطفال وكأن الأمر يستدعي كل هذا الانقضاض من أجل إنقاذه. هم هكذا في ألفتهم وتآلفهم يرحبون بالضيف، ويشعرونه بأنه أهل للضيافة، وإذا ما استدعى الأمر أو لم يستدع هم رهن الضيف، والكل يجمع على أخذ المبادرة والمحاولة بالجهد الأقصى. إن فرحهم الأسمى هو أن يدلوك على طريق أضعته، أو على معلم من معالم المدينة تاه عنك موقعه. والجميل أنهم يأنسون نحو الزائر العربي ويبادلونه التحية بلغة الضاد، وبوجوه فرحة مشبعة بالبهجة، فما أجمل أن تشعر أنك في زمن غيبته الحياة، واستدعته مدينة جميلة في طقوسها ومعالمها، وهذا هو نهجها المتأصل، برغم موجة التجديد سواء في معالم البناء، أو في حالة التحضر المنسابة في جوهر الحياة بباكو. هم يتحدثون اللغة العربية البسيطة، إلا أنهم لا يجيدون أياً من اللغات الأخرى، وهذه إحدى المعضلات التي كلفتني التخلف عن موعد الطائرة، بل المضحك حين لا يفقه السائق مدى أهمية الوقت، وحين يقف فجأة ليتحدث مع آخرين، وأنت الراحل إلى بلدك لا تعرف ما المشكلة التي تجعله يتوقف، وما الحديث الذي يجريه مع أناس واقفين بالطريق.