في الغرب وأميركا ينمو الخواء الروحي، وينمو البحث عن معطيات وثوابت روحية، من شأنها أن تغذي الحياة لديهم وتضعها في سياق الوجود والمألوف. فما حققوه من بحوث علوم دنيوية، واختراعات تخدم الإنسانية، نأت بهم بعيداً على ضفاف الحياة، وهو ما يجعلهم يثابرون في البحث المستمر عن المكون الروحي، الذي يشبع الذات ويجنّبها الازدواجية الفكرية أو الهموم النفسية. إن الرؤى الوضعية التي سار عليها الغرب، لم تشكّل يوماً نموذجاً اجتماعياً يؤالف بين المكون الروحي والطبيعة الإنسانية وفطرتها التواقة إلى إشباع الروح وإعمال العقل. ولا ننسى بأن تغييب الجانب الروحي كان مفتعلاً، خصوصاً بعد الوهم الذي ساد بأن ما تحقق على صعيد الثورة الصناعية والمدنية، يمكنه أن يمنح الإنسان نوعاً من الاكتفاء. وقد كان هذا الوهم دافعاً لبعض الدول، وخصوصاً في منطقتنا، إلى محاولة اقتفاء أثر الغرب في الاكتفاء بالجانب المادي على حساب الروحي، وهو أمر كان وما يزال يمثّل مجازفة بالمخزون الروحي المتأصل لدى شعوب هذه الدول. لقد بكّرت الإنسانية بصياغة نظريات تنحرف بها عن فطرتها، ولقد تراكمت تلك النظريات على رفوف الزمن، وتناثرت ما بين الشتات والإفلاس، ولايزال هناك من يراهن على قيم الخواء الروحي، دون أن يعنيه كثيراً ـ عفواً أو عنوة ـ ما يتسبب به ذلك الانسلاخ عن قيم السمو والرفعة، من أذى وإن بدا أنه فردي غير أن أثره جماعي. إن النظريات الوضعية هي أشبه بلعبة الحوت الأزرق، فاللاعب يظل تحت سيطرة اللعبة التي تحطم الحقائق، وتتوهج وهي تلقي شباكها نحو المصير المحتوم.. نظريات غريبة، مدمرة، مفارقة لحقائق التاريخ وسياق الحياة. وإن كان لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أهمية دراسة الواقع المادي، والاستفادة من معطياته، واستشراف المستقبل بقوانينه، لكن كل ذلك ينبغي أن يكون مؤطراً في السياق الحضاري المكتنز بقيم الحق والعدالة والخير للجميع. فالحياة واحة جميلة نستقي منها نظريات متزنة. فالثوابت لا تخطئ. والفطرة لا تودي إلى المهلكة. وانفتاح الروح يسد منافذ التعصّب. والإيمان السليم يفتح أبواب الحوار القائم على الإنصاف والفهم والثقافة، وتكريس مبدأ حق الآخر. فمن يؤمن بالحرية والديمقراطية، ومن يحمل راية السلام والفكر وحقوق الإنسان، لا شك أنه تلقى دروسه الأولية من إرثه الثقافي، الذي كرّسته رسالات السماء، وحمته أجيال من المؤمنين بها.