تبدو عبارة «أنا مش أنا» التي يستخدمها الناس على سبيل الدعابة بأننا نتفاجأ بتغيرنا من دون سابق إنذار، واقعاً حقيقياً تثبته تصرفاتنا البشرية كل يوم على الواقع الافتراضي. والحقيقة أننا نتغير بالفعل، ونعرض نظامنا الاجتماعي كل يوم إلى خطر التغيير غير المستحسن على الإطلاق. فالكذب المنتشر على سبيل المثال على وسائل التواصل، لم يعد «الكذب» بحاجة إلى شهر أبريل ليُحتفل به، فها هي وسائل التواصل تنخر في نظامنا الاجتماعي الذي من المفترض أنه قائم على «الثقة الضمنية» التي تستند إليها علاقاتنا فيه. فعندما يتحول الكذب إلى سلعة مجانية بهذه الوفرة، يصبح «سوء الظن» سمة يجب أن يتسلح بها الإنسان «المتوازن»، وأنا هنا لا أتحدث عن الإنسان الذكي، بل عن الإنسان العادي الذي يمكن أن يكمل مسيرة حياته بصورة طبيعية، ويسهم بشكل معقول في بناء مجتمعه، وهو ما يعد من الصعوبة بمكان في ظل نظامنا الاجتماعي «الجديد» القائم على وسائل التواصل الإلكترونية. في تحقيق كان قد نشر بداية العام بعنوان «لِمَ نكذب؟» (في مجلة ناشيونال جيوغرافيك العربية)، حاول إلقاء الضوء على طبيعة هذا السلوك، وكشف جذوره وركائزه النفسية والعصبية. لا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يحاول الموضوع تصوير إلى أي مدى يمكن لحبل الأكاذيب أن يطول! وفي رأيي أن هذا الشق بالذات هو الأكثر أهمية، لكونه يتعلق بتداعيات سلوك الكذب على نظامنا الاجتماعي، وعلى ركائز فطرية لدينا نحن البشر تعتمد على ميلنا الطبيعي للثقة بالآخرين وتصديقهم. وهذا ما تظهر آثاره في تعامل أغلبنا مع وسائل التواصل الاجتماعي، سواء في شكل علاقاتنا على هذه المنصات أو في ما يرد إلينا عبرها. ومع كثافة العلاقات وتشابكها وسرعة تدفق المعلومات وتعدد مصادرها، أصبحنا نتغير من دون أن ندرك أننا نفقد بوصلتنا الطبيعية في تمييز الصدق من الكذب. ظهر علم نفس الإنترنت (أو سيكولوجية السايبر) (cyberpsychology) حديثاً مع تزايد استعمال الإنسان للحاسوب الذي أصبح مع الوقت، ومنذ منتصف تسعينيات القرن الماضي، مكوناً أساسياً في تحديد هويتنا وعلاقاتنا ومصادرنا التي لم تعد كما كانت مسبقاً أقل تعقيداً، معتمدة على البيئة الحقيقية المحيطة بنا فقط، بل غدت تشمل كل ما يرد إلينا افتراضياً عبر شاشات الحاسوب. ولذلك، فهذا العلم الجديد سيتطرق قريباً إلى تأثيرات ذلك على نظامنا الاجتماعي ككل، لكون أنماطنا الاجتماعية الحالية تتغير وبسرعة كبيرة تفوق سرعة تطور قدراتنا على التمييز بين الغث والسمين والصدق والكذب.. فلا تجزع عندما تجد نفسك قد تغيرت دون أن تدرك ذلك!