للشعر أيقونة لا تغيب وإنْ غابت الأجسام، وتوارت خلف حجب الموت. عوشة بنت خليفة السويدي، من رياحين الشعر قطف، فأينعت القصيدة حتى صارت أيقونة في زمان
الشعر وفي رياض الإمارات، وفي غياب عوشة تتسع حدقة الذاكرة، ويفيض نهر التذكر، ويسرج الشعر جياداً في التفاصيل، ويمتطي صهوة الحلم الزاهي، لنضع على القافية
وزناً يلائم حجم الشاعرة الكبيرة التي تركت للأجيال كتاباً مفتوحاً لا يغلق صفحاته أبداً، إنه كتاب الشعر، وللشعر نوافذ ملؤها نسيم من حفيف أوراق اللوز، وهدهدة الأجنحة
التي ما انفكت عن الرفرفة، لتعانق فضاءات الله، وتمضي في الزمان تحليقاً، وتصفيقاً وترقيقاً، لأجل أن تلمع مرايا العالم، ولأجل لا يلحقها غبار، ولا سعار، فهذه هي وظيفة الشعر، فهو البلل الذي يرطب أرواحنا من جفاف العالم، وجموده وجموحه، وهو المنطقة التي تنمو فيها أعشاب أفئدتنا، وتترعرع أزهار حياتنا، وتزهو مرايانا بالصفاء والنقاء، وتزدهر حقولنا بأوراق القرنفل العطرة، ونزدهر نحن بالحب. تغيب عوشة، ولن تغيب القصيدة التي نقشتها على صفحات التاريخ، لن يتوارى النفس الذي نفخ في روح الشعر، بل سيبقى مثل ما هو صيت الإمارات، مثل بهائها الذي عم الدنيا وأسمع من به صمم. فلا خلود إلا للذين ينسجون الحب، خيوطاً من حرير، وينقشون الإبداع على فنن الأطيار، ويسكبون الحلم وعياً إنسانياً ينمو في خلايا الدهر ما بقيت الإنسانية، فلا حياة من دون إبداع، ولا إبداع من دون شعر حقيقي، ولا شعر من دون شاعر أو شاعرة تمكن منهما الشعر حتى صار الديدن، والوزن والقافية لحياتهما، وعوشة من هؤلاء الذين سجلوا في تاريخ الإمارات سيمفونية البراعة الشعرية، ورسموا صورة المبدع الملتزم بأخلاق الشعر، وشاعرية المبدع، وهي التي خاضت غمار الكلمة النبطية بجدارة، ما جعل اسمها موشوماً على دفتر الشعر، مرسوماً عند قوام القصيدة، موسوماً في تلافيف
الأدب الإماراتي بيقين الشاعرة المبدعة، والمتمكنة، والتي كان الشعر في حياتها بمنزلة الماء والهواء، وكانت القصيدة محل النفس والنفيس. لذلك نجد في رحيلها تبدو القصيدة
مثل الشمس التي لا تغادر مكانها، بل تظل تهطل شعاعاً منيراً يضيء مثوى الراحلة لينبئ الأجيال، إن الشعر والشاعر هما ضفتا النهر، فلا غياب لأحدهما أبداً، وما الموت إلا ذهاب الجسد، وبقاء الروح في قلب الشعر.