كان حلماً قديماً منذ نشوة الصبا التي نسجتها ثقافات الشعوب وآدابها التي انتشرت في الدول العربية منقولة إليها عبر الترجمة من لغاتها: الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الهندية، الفارسية إلى اللغة العربية. لكن ترجمتها إلى العربية لم تتم مباشرة عن لغاتها الأصلية، إذ أن أغلبها ترجم عن اللغة الإنجليزية والفرنسية بحكم تاريخ حضور هاتين اللغتين في الدول العربية. كان لشغفي بالقراءة منذ غضون الصبا أن أوغلت في قراءة آداب الشعوب المترجمة إلى اللغة العربية، والصادرة من دور النشر اللبنانية والسورية والمصرية. وكان من بين تلك الثقافات مختارات من الأدب الإسباني، مثل رواية «دون كيخوته» ميغيل دي ثيربانتس. ومن الشعراء أتذكر: فيديركو غارثيا لوركا وأنطونيو ماتشادو، ورفائيل البرتي، والرسامين: بابلو بيكاسو وسلفادور دالي. والكثير من الكتب التي أرخت الفتح العربي لإسبانيا، والكثير الذي لا أتذكره الآن لكنه ظل قابعاً في لاوعي الصبا والشباب. وكتب تلك المرحلة التي بقيت إلى الآن على أرفف مكتبتي تحمل تاريخ صدورها منذ أواخر الستينيات. كل تلك القراءة للأدب الإسباني، وشغفي بالموسيقى الإسبانية، غرست تلك الرغبة الفتية والحلم الذي استعصى تحققه بزيارة إسبانيا. كنت أتمنى وأحلم أن أزور إسبانيا لكن طرقات الحياة لم تؤد إليها. فبقيت في خزائن الذاكرة الخفية. أنا الآن أتذكر كل هذا وأنا في إسبانيا لحضور حفل زواج ابني من فتاة إسبانية التقاها في الإمارات فأحبا بعضهما وقررا الزواج. أدهشني هذا الأمر، كما أدهشني سابقاً قرار ابنتي، بعد أن تخرجت في الجامعة الأميركية بالشارقة مهندسة معمارية، وعملت في شركة عقارية كبيرة، قررت أن تذهب إلى إسبانيا لدراسة اللغة الإسبانية، وعادت لتعمل باللغة الإنجليزية السائدة في بلداننا. وأنا لا أذكر أبداً أنني قد تحدثت إلى أولادي بحلمي القديم لزيارة إسبانيا، وشغفي بآدابها وشعرائها وثقافاتها وموسيقاها، كما لم أتحدث بهذه الأحلام إلى أحد من أقربائي، ولا أذكر أيضاً أنني في ذلك الزمن الفتي البعيد كنت أكتب مذكراتي التي تحتوي أمنياتي وأحلامي ورغباتي الخفية، حتى أعتقد أن ابنتي وابني قد اطلعا عليها وهما صغيرين، فانغرس الحلم والأمنية في ذاكرتيهما وأحلامهما، فكيف حدث أن شغفت ابنتي بدراسة اللغة الإسبانية، ويتزوج ابني بفتاة إسبانية، ويتعلم ابن أخي العزف الموسيقي الإسباني على الجيتار. ويدعو فرقة فليمنكو إسبانية للعزف في البحرين. إن سبب هذا القول كله هو السؤال الحائر هذا: هل تنتقل أحلامنا ورغباتنا الخفية وطموحاتنا التي لم تتحقق إلى أبنائنا فيرثونها في خفاء الذاكرة ، كما يرثون الكثير من صفاتنا الجينية؟