نحن نحتاج إلى المستقبل، ولا نستغني عن الماضي، والحاضر مرآتنا التي تطل على العالم، بوجوهنا من غير غبار، ولا سعار. اليوم أصبحنا في رهان العقل الذي هو المركبة الفضائية التي ستقودنا إلى ما خلف الجدر، وسوف تحمل تطلعاتنا إلى غايات قد يعجز المتقاعدون عن تصورها، ويصاب بالذهول من لا يعترفون بقدرة العقل على الكتابة على الماء، والمشي على الهواء.
العقل وحده الذي يجل العقل ويقدره، ومن لا عقل له يعجز عن قياس المسافة ما بين التخلف والتطور، ويشعر بالدونية أمام منجزات العقل وأحلامه الزاهية التي يلونها العقل من زرقة السماء، وبياض الغيمة، وصفاء البحر، ونصوع الروح.
هذا توق بشري أزلي، ولكن بعض المارة في شارع الحياة تصيب قلوبهم الرجفة عندما تصادفهم كلمة تطور، فينكفئون، وتدمى أفئدتهم بالأسى، ويدخلون في حوار داخلي يزيدهم بؤساً ويأساً، ولا يملكون إلا نعت التطور بالبدعة، وذلك حتى يلجموا ما يدور بداخلهم من فقاعات فوران الماء في القدور الكاتمة.
إذاً العالم في صراع أزلي بين الجالسين على أديم الخراب الداخلي، والذين قطعوا مسافات واسعة على خريطة العمل الذهني، وحققوا نجاحات هائلة على صعيد الإبداع، وأدهشوا، وتوغلوا في التاريخ بأبجدية الإبداع، ويراع العذب المشذب، المهذب، المذهب، والمسهب في صياغة الواقع على نمط القلائد في نحور اليانعات الكواعب. وكل من ينهل من الماضي لينتج حاضره هو من يفوز بالرهان، ولكون الإنسان (راعي الوجود) كما ذكر الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر، فإنه يقع على كاهله الإمساك بمفاصل هذا الوجود، وفك شفرته، لأجل أن تمضي المركبة من دون عقبات تعرقل المسيرة، وتربك الأنامل التي تخيط قماشة الفرح، وفي مقابل الماضويين، هناك الذين يريدون الذهاب إلى المستقبل من دون المادة الحية التي تحمي الطموحات، وهذه المادة كامنة في حرير الماضي ملمسها ناعم، وتدفع إلى تسيير العربة
بخطوات واثقة وثابتة وأكيدة، لأن ما من يد واحدة تصفق في الهواء، وما من قدم واحدة تمشي على الأرض بيسر وسهولة، فلابد للماضي من حضور، لأنه القاعدة الخرسانية التي يتكئ عليها البناء، ومن دونها لا مستقبل يشرق، ولا حاضر يليق بإنسانيتنا التي جبلت بأنساقها المنتمية إلى المحسنات البديعية التي تمنحها الجمال، وتؤكد بلوغ الإنسان مرتبة العقلنة، وهي صلب الوجود البشري وجوهره. إذاً نحن في الحاضر، ويدانا إحداهما في الماضي، والأخرى تشير إلى المستقبل.