ساد في النطقِ لثغٌ، واستوطن الكلامُ الهجينُ منابر الفصحى. ومن قصر الجزالة، نزل الشعراءُ مجروحين في أقلامهم، وراحوا يفتشون عن الكلمات التي فرّت من قواميس العذوبة، وضاعت معانيها في الحواشي والهوامش والرتوش.
كانت البداية عندما تكاثر الغرباء على باب القصيدة وراحوا يرجمونها بتهمة الغموض. ثم خرج باعةٌ من أسواق اللغو الرخيص، وروّجوا لبضاعة النسخ باعتباره فتحاً في العقول الجامدة، ونصراً لإبقاء اللغات في أقفاصها، لكن امرأة اسمها الحرية ظلت تنادي من بعيد على الأرواح التي ضجّت من التكرار وتعتّق اليباسُ في نشيدها.
قال شاعر ضاحك: الحبُّ سمكة ضائعة في بحر دمعٍ، الحبُّ أغنية في جناحٍ مكسور، ثم حمل شمعة وراح يركضُ باتجاه الليل ولم يعد، لكن سيرته ظلّت تشدّ الراغبين في كشط الظلام، وصوته صار قهقهة كلما تنادمت الرؤوس وتهكّمت على انفصام زمانها.
وسوف يحكى بعد ذلك عن الجرس الخافت الذي يظلُّ يرنُّ في جسد القصيدة حتى لو أخمدوا نارها. وعن الإيقاع باعتباره تناغم المعنى الذي يستقيم به المبنى. وعن الانزياح باعتباره اجتياح المكامن العصيّة على الخيال. وإذا أراد الشاعر الخروج من خرائب الماضي، فعليه أن يتدرّب أولاً على الهدم. وإذا أراد أن يطير، عليه أن يكنس ما تراكم من الريش المحروق. ومن هنا تبدأ الحرية، عندما يستيقظ جمرها على شكل صوتٍ خفيف في العقل، ونبضٍ هامسٍ في القلوب. ثم تكبرُ عندما تتفتح أجنحة الشاعر، فيحلّق أولاً على الورقة، واصفاً الذات بأنها قيد مسعاها، منتهكاً حرمات الخوف، فالقاً رأس اليأس بفأس، وماسحاً بمنديل الكرامة عيون الأطفال الباحثين عن الضوء الجديد.
والى أن يدوم ذلك، سيظل اللسان الملعثمُ يرطنُ في مناسبات الفراغ. وستظل الركاكة تصعد سلّم الهاوية، لكنها ستسقط لا محالة على رؤوس المصفقين لها. والسطر المائل لابد يلتفّ على صاحبه ويخنقه في النهاية. ذلك لأن الحقيقة في عمقها ترتكزُ على سندٍ واحد وجوهري فقط هو اللغة الجانحة التي يبدعها العقل التوّاق إلى المعرفة. أما ما عداها فمجرد نبشٍ في قشّ، وتكاثر هلوسات ليس إلا. وهذا التوحّش الكبير، والتجيّش العالي ضد القصيدة بشكلها ومفهومها الجديد، هو في عمقه الجدار الذي تستندُ عليه الأقلام المكسورة، والأفواه المحشوّة باجترار الكلام، وما أكثرها بيننا اليوم.