كنّا في بلاد ووقت لا أحد يحمل جواز سفر، لأنهم لا يعترفون بجواز، ولا ينوون على سفر، والبلاد المجاورة لا يطلبون تلك الأوراق، وإذا ما اضطر الشخص لسفر إلى «العالي» للعلاج أو بغى حجاً للديار المقدسة، استخرج من الحاكم ورقة تسمى «بروه»، وهي تشبه الشكل القديم لجوازات المرور، حيث لم تظهر الجوازات بشكلها الحديث إلا بعد تطور التصوير الفوتوغرافي، وكان يطلق على تلك الورقة لفظ مخترعيها الفرنسيين «laissez passer»، ومنها جاءت كلمة «باسبورت»، وكنا نحن نسميه في عاميتنا «باس»، وأصل كلمة «بورت Porte» الفرنسية، وتعني البوابة، ويومها كان لكي يدخل الناس المدن عليهم الدخول من بوابات أسوارها، وكانوا يحملون «pass porte»، وقد عرفت إبان العصور الوسطى، لكن أقدم أنواع جوازات السفر، وأولها كان عام 450 ق.م، عندما أعطى ملك الفرس «أردشير» ورقة لـ «نحميا» خادمه ليعبر إلى «جودا»، فحمّله ورقة لحاكم بلاد خلف الأنهر، يطلب منه السماح بعبور «نحميا» أراضيه بأمان، وقد سافرت وأنا صغير اضطرارياً بتلك الورقة «البروه» إلى البحرين، أما أول جواز حصلت عليه، فكان لونه أحمر، تابع لحكومة أبوظبي وملحقاتها، وكانت بطاقة الهوية حمراء بدفتين، ثم ظهرت البطاقة الحمراء ذات الثلاث طبقات، ولعلني أذكر إذا ما خانتني الذاكرة أنه كان عند أبي جواز سفر لونه كحلي على قماش، يشبه لون جواز سفر الإمارات الآن، يعود لبداية الخمسينيات أيام حكم الشيخ شخبوط رحمه الله، ثم جاء الجواز الأحمر بعلمين متشابكين، أما جواز الإمارات فكان لونه أسود ثم أصبح كحلياً، هذا الجواز اليوم ترتيبه عربياً الأول، وعالمياً التاسع، وهذا جهد متكامل ومتراكم لم يأتِ بالسهل، بل تتويج لأعمال كثيرة، وعلاقات متينة، أرساها المغفور له الشيخ زايد، وأكملها صاحب السمو الشيخ خليفة، ويتابعها باهتمام واقتدار صاحبا السمو الشيخ محمد بن راشد، ومحمد بن زايد، إن هذه المكانة المرموقة لجواز سفر الإمارات كان دونها خرط القتاد، كما يقول العرب، هو نتيجة تلك الدبلوماسية الراقية والصامتة والهادئة لسمو الشيخ عبدالله بن زايد، ويمكن أن ننعتها بالدبلوماسية الراقية، لأنها متكاملة، وصامتة لأنه لا يحب المزايدة، وهادئة لأنه لا يحب الشعارات.
ولعلني أختم بسمو الشيخ عبدالله، فقد كنّا بمعيته بعد فتح القنال بين فرنسا وبريطانيا، وكنا يومها آتين من لندن نحو باريس عبر «الأورو تونيل»، وكانوا قد حجزوا مقاعدهم الأولى الوثيرة، ورموني أنا وحقائبي العسكرية في «الكريل»، لأني كنت متأخراً في الوصول، ولأنني انضممت لهم مؤخراً في السفر، لكن ما أن وصلنا باريس بعد تلك الرحلة المريحة، والتي نجربها للمرة الأولى، حتى كنت بعد دقائق خارج المحطة أنتظرهم، في حين تأخروا هم ببطاقاتهم الأولى، وبجوازات ربما دبلوماسية، وحقائب مخملية، لمدة نصف ساعة، وحين خرجوا كان سؤالهم: كيف؟ ولَم أجب، تاركاً الأمر لمخيلاتهم التي كانت تقول: «يا أبوي.. هاي بلاده»! فقط الأمر الذي لم أقله أني كنت أحمل «carte de sejour»!