نتخيل كم هي المسافة بين العقل والقلب، ونعتقد أنها كالمسافة بين الشمس والقمر، وأن العقل يقف على مسافة من القلب لا تزيد على شعرة.
العقل كائن جبار، ومراوغ، ومخاتل، والقلب مخلوق عفوي يخرج من ترب الفطرية ولا يتزحزح قيد أنملة، بينما العقل بدأ في الغابة يرعى أشجار الحياة بتؤدة ولما بلغ به النضج انفلت مثل الموجة الخارجة من أحشاء البحر، يلطم سواحل الفكر حتى الإدماء، ولو تأملنا كيف تحول الإنسان الفطري إلى أسطورة في الخداع، والتملص من المواقف المحرجة، سنجد أن لهذا العقل مخالب لا تقل شراسة عن مخالب الشيطان، من مكر ودهاء، ما يجعل هذا العقل ينكص تارة إلى الطفولة الباكرة، فيعبث بمحتويات الحياة، ثم ينهض في رعونة ومراهقة، فيمسك بالقيم الإنسانية بشطط وغلط، ثم يعود إلى شيخوخة واهنة، فيطيح بمنجزات الحضارة ويجعلها كعصف مأكول.
اليوم من يتأمل المشهد الإنساني يرى كيف يفعل العقل بحضارة بنيت على مدى قرون لأجل إسعاد الإنسان، ولكن العقل المخادع لم يستأنس هذا المنجز، فنرى كيف تتسابق دول منهكة اقتصادياً، وشعوبها تعيش على الكفاف في إنشاء مفاعلات نووية تكلف هذه الدول مليارات الدولارات، كل ذلك من أجل إرضاء العقل الجبار، ومن أجل تحقيق التفوق على الغير، وإرهابه، وزرع المفارقة الذاتية بين طرفين كان بالإمكان أن يتعايشا بوازع القلب، ومن دون خسائر ولا جوع، ولا عطش.
العقل هذا هو نفسه الذي بشر العالم بمبادئ حقوق الإنسان، وهو نفسه الذي يتحدث عن علم ينفع، وأخلاق تدفع عن البشر شرور الظواهر الطبيعية، وهو الآن الذي يشيع فاحشة الدمار، وينشر طغيان الأسلحة الفتاكة، ويوزع الخوف في ربوع العالم، من أجل فرض سيطرة دولة على أخرى، وفرض ظلمها جوراً وعدواناً.
وتحت شعارات دينية، أو أخلاقية، أو قيمية، تكشر السياسة العقلية عن أنياب الكراهية، وتسهب في الفيض من غيض في تحميل الحياة ما لا تتحمله ويتحول العالم الذي يعيش في القرن الواحد والعشرين إلى عالم غابي فج وقميء يرفض القلب عندما يستفتي نفسه، لأنه ما من شيء خرج من الطبيعة يألف ما ألفه العقل، غير العقل، والقلب منه براء.
القلب القابض على جمرة الانغماس في الطبيعة، بسكن في المسافة ما بعد الشعرة، ويطل من خلالها ويتأمل المشهد ويقول أعوذ بالله من شر ما خلق.